‎الحلقة 1 : إذن الحي‎

دخل روضة الشهداء.. وقصد في مشيه إلى أن وقف أمام ضريح مرشده ومربيه الذي لا يتميز ظاهره عن باقي مراقد المسلمين..

هنالك.. قرأ الفاتحة ودعا الله لنفسه وأهله وجماعته وأمته والناس أجمعين.. من خرج للوجود منهم ومن سيخرجون مستقبلا.. ثم أكمل بعض أوراده.. بعدها شكى إلى مربيه ظلم الحكام المتسلسل كالشلال لا يستثني إدارة ولا ذمة .. بل ولا مسجدا.. بل ولا مقبرة.. وشكا إليه تمرد نفسه ورعونتها.. ثم تذكر أن وقت الشكوى لا يجب أن يقرض من وقت الفعل والإنجاز والتفاؤل.. فلخص تقرير آخر إنتاجات وأسفار فريقه في الدعوة.. بل وأسمعه آخر لحن لنظم من قطوفه.. بل وشاركه ضحكة خرجت من شفته عندما تذكر خطأ ارتكبه أو موقفا أو زلة لسان مضحكة وقعت وهو يحاول أن يدعو الناس.. كان يعرف أن الشهيد يراه ويسمعه.. وكيف يشك في ما أخبر به الوحي حول الشهداء.. بأنهم ليسوا أمواتا.. (بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ).. كان وحيدا بعد ظهر أو عصر ذلك اليوم المشمس من أيام وسط الأسبوع..

انهى زيارته وانتعل نعليه الذين كان قد خلعهما وتركهما على قارعة الممر.. ثم طلب الإذن من شيخه ليزور والدته..

تأدب الفتى لما سمع وقرأ من تأدب التلاميذ مع أحباء الله.. لكن عقله “المنطقي” وسوس له أن ما قام به تكلف لا داعي له.. سيما وأنه يعرف أن صاحبه يكره التكلف.. فلا أحد سيمنعه -منطقيا- من الذهاب إلى مرقد السيدة الشريفة الذي لا يبعد كثيرا من حيث كان يقف.. ثم كيف له أن يعلم جواب شيخه على طلبه..؟

أبعد الوسوسة عنه قليلا.. ثم صعد ليزور أمه.. أم شيخه.. رحمهم الله جميعا..

تتبع خطا أخضر يؤدي إلى قبرها حتى انقطع الخط مؤذنا بأن الفتى قد وصل .. لكنه في هذه المرة.. لم ير قبرها الأبيض الذي تزينه حجارة ملساء مطلية بالجير الأبيض.. والذي يعرفه حق المعرفة..

بحث طويلا ثم رجع وأعاد الكرة مرارا..

لأ قبر هناك !

فهم الفتى الدرس..

لكنه أصر ألا يغادر المكان.. إلى أن يأذن الله له..

عليه أن يتأكد بأن الدرس تنبيه من معلمه وليس غضبا منه..

أعاد الكرة مرارا ومرارا.. بلا جدوى..

أرجع البصر كرات وكرات.. وفي كل مرة ينقلب إليه البصر حسيرا..

بدأت الشمس في الغروب.. وقد قرر صاحبنا ألا تراجع وإن لزم الأمر المبيت عند شيخه..

لم يكن أحد يتجول في المكان ولا حتى السقاة..

وأعاد الفتى الكرة.. وأحصى القبور عند نهاية الخط الاخضر وحاول تذكر علامات أخرى.. اعتمد طرقا مختلفة.. وعاود المحاولة قادما من الباب الخلفي.. لكن بلا جدوى..

ولما استيأس الفتى.. إذا به يسمع صوت رجل يناديه.. رجل قاصد في مشيه بين القبور .. رجل بلباس عصره.. غير ملتح.. : “أتريد قبر الشريفة؟”.. قال “نعم”.. ثم أخده إليها.. وتركه..

سلم الفتى على أم شيخه وقال لها بعد أن قرأ القرآن ودعا هنالك.. “من فضلك سيدتي.. اطلبي من ابنك أن يسامحني”..

فالرجل يعرف أن شيخه البار بأمه.. لن يرفض لها طلبا..

فرح الفتى بما حدث.. وفهم درسا من “الذكاء الكبير” غير المنتظر.. . لا من “المنطق المشترك” العادي.. المنتظر..

وافهم أن أولياء الله الربانيين يربون أبناءهم أحياء.. وأحياء..

{ولكن لا تشعرون.. }..

ملحوظة : كل تشابه في الشخصيات والأحداث.. محض قصد..