بسم الله الرحمن الرحيم وعليه أتوكل..
بداية 2013: بعد شهر من وفاة مرشدي -رحمه الله تعالى ورحمني معه- سألت نفسي بحسرة وحزن كبير : لم انقطع الوحي: لم أره منذ يوم الدفن؟.. أهي الذنوب؟ أهو خلل في الصدق؟ هل هو غاضب مني لكسلي؟ هل رأى مني ما لم يسره؟ سترك يا رب لا أريد أن تعرض أعمالي عليك وعلى رسولك كل أسبوع ويرى تقصيري وضلالي.. ليس من أجل نفسي ولكن من أجل مرشدي..
عليّ أن أعمل أكثر.. لأساهم في إكمال ما بدأه والدنا.. هذا أقل ما يمكننا فعله من أجل من ترك كل شيء لأجلنا..
لكن بٍمَ أبدأ يا رب؟ مشاريع الدعوة كثيرة والأفكار منك غزيرة لكن اليد والأعمار قصيرة.. ولا فكرة عندي بالأولويات..
نمت ليلتها حزينا.. جدّا..
هل انقطعت الصلة؟ تذكرت يوم دعوت الله أن يقبضني حين دعاني أحد المتصوفة لأكون معهم بعد أن أوّل ما سمعه في رؤياه بغير علم تأويل.. هجرت النّوم أو هجرني.. ألا أستحق أن أكون مع من يجمعون بين الصحبة والذّكر والجهاد.. أهل العدل والإحسان؟.. ولولا فضل الله الوهاب بعد أيام ولطفه الجلي الواضح المباشر لكنت من الهالكين..
نمت تلك الليلة حزينا.. جدا..
هل انقطعت الصلة.. ألن تعود تلك الأيام الجميلة النيّرة في صحبة الإخوان وذلك الدفء وتلك الرؤى والتجليات؟
في تلك الليلة رأيت الإمام ضاحكا مستبشرا في مجلس يضم بضع إخوان.. كنت أحمل دفاتر كثيرة أدون فيها أفكارا تأتيني ومشاريع أخطط لها..
قلت له عندما هممت بالخروج بعد انتهاء المجلس: “أدع الله لي”.. فنظر إلي مبتسما كأنه يذكرني أنه في عرف الناس “ميت” ..
ثم قبّلته كثيرا وهو رافع يديه يدعو الله لي.. وقبل أن ينصرف أخد من بين دفاتري العشرة.. دفترا واحدا .. كنت عنونته “الذوق السليم”..
كنت كتبت فيه بعض الأفكار عندما سمعته يحفزنا على الكتابة في الموضوع منذ 20 سنة..لكني لم أجد نفسي قادرا على خوض غماره وكم أردت أن يقوم بالمهمة آخر لتتحقق رغبة والدنا.. فالموضوع شاسع ولا رابط بين أفكاري ولا سياج لها ولا أجد مراجع عميقة إلا كتيبات تختزل الذوق السليم في الإتكيت.. وهذا ما يفسر ترددي وتأخري..
لكن الإذن جاء.. وجاء قبله شيء زائد..
والإذن لغير الانبياء: الإلهام والتوفيق..
في ربيع 2008: يسّر الله لنا زيارة للإمام المرشد في حديقة منزله.. جزى الله عنا سيدي عبد الله الشيباني الذي رتّبها.. جاءت في كلام الإمام جملة عارضة –ظاهرا- عن الذوق السليم وافقت همّا كان يراودني.. قال “الذوق السليم في شعب الإيمان”.. يا الله.. وانا الذي اختزلتها في شعب السمت الحسن فقط..
لقد سيّج الإمام الموضوع ووضح المهمة.. لكن اقتحامها بدا لي أصعب.. فكيف يكون الذوق في خصلة الجهاد؟ وفي شعب الذكر.. والعمل.. والعلم والتؤدة… وفي الصحبة والجماعة وفي البذل.. وفي الصدق.. حتى في الاقتصاد؟
الآن ارتحت.. إن متّ قبل أن أكمل فقد تركت توجيه الإمام في الحلقة الأولى لكلّ من أراد اقتحام الموضوع.. وأرجو أن أقرأ لآخرين.. فإنهم سيرون حتما ما لا أرى..
مرمى مقدمّتي بعيد عن السيرة الذاتية.. فقد استعملت أحداثا واقعية لأسباب:
-أوّلها أن الأسلوب القصصي يساعد على التذكّر..
– ثانيها أن أركز على مساعدة الغيب للمؤمن المتهمم بالدّعوة وأذكّر بأن الرؤيا وحي فهي جزء من النبوة كما في الحديث.. والنبوة وحي قبل كلّ شيء.. وحين قلت “الوحي انقطع” لمّا لم أعد أرى مرشدنا في المنام.. إنما أردت أن يتذكر الناس هذه الجملة التي تقرن الرؤيا الصالحة (لا الأحلام العادية) بالوحي .. وهو ليس استعلاء فقد أوحى ربك إلى النحل كذلك.. ثم إنه لا يد لأحد في الرؤيا.. ولا تعبر عن صلاح الرائي فقد يراها غير المؤمنين.. وقد ترى لشخص آخر..
– ثالثها أن الصحبة هي أن تحرص ألا يسقط كلام والدك أرضا أي ألا تترك كلام مرشدك بلا عمل كما قال لي سيدي منير الرگراگي حفظه الله (في الذكرى الرابعة) حين أخبرته بمشروع كبير جدا سمعته من سيدي عبد السلام ياسين رحمه الله وأريد أن أحققه إن كان في العمر بقية (دعواتكم جزاكم الله).. قال لي بالدارجة المغربية.. “الصحبة .بلا كثرة الكلام وبلا كثرة القراية هي لما ماتخليش كلام أباك يطيح للأرض” أو كما قال..
– رابعها أن الإذن والرؤيا لا تعني القيام المتسرع بالعمل وإلا كان الأمر “جذبة”.. فمن خصال المنهاج النبوي العمل المخطط والتؤدة غير القاعدة الواقفة..
– خامسها أن الرؤيا لا ينبثق عنها قرار.. وهي تحتاج إلى تأويل ممن علمه الله تأويلها.. وهي مبشرة وليست شرعا متبعا.. تسر ولا تغر.. تسر أي أنها لا يجب أن تحزنك.. فرؤيا الصّوفي الذي كان يريد مني الالتحاق بزاويته مثلا أوّلها هو بما وافق رغبته.. لكن -ولله الحمد الكثير- شرحها تجلّ واضح قوي (ولا أزيد) رأيت وسمعت فيه من بين ما شاهدت قطفا للمرشد فيه دعوة هي للصوفيّ بأن “يأتي معي” هو ل”العدل والإحسان” وليس العكس :
“أغفى بخلوته الضعيف الناسك..وأصم أذنا عن ضجيج العالم
وأنا ولجت زحامه في عزمة..متوثبا مثل الهزبر الهاجم
انا لا أذل لظالم أو معتد.. لا أستكين له بقول مسالم
ديني الجهاد وهو دين محمّد (بالعدل والإحسان) هل من قائم
(يأتي معي) لنشنها بتصادم.. وببأس أشبال وثغر باسم”..
حسنت المقدّمة بوجود المفتاح “الذوق السليم في شعب الإيمان” ..
فاللهمّ ارزقنا حسن الخاتمة بفضلك وجودك ورحمتك..
أسألكم الدعاء لأفي بالوعد…
