أسمى العبادة حب..
فالإحسان أن ‘تعبد” الله كأنك تراه.. وفي هذا حب واشتياق للمحبوب تعالى وعلا.. والله “يحب” من وصل إلى هذا المستوى من العبادة.. (إن الله “يحب” المحسنين).. وهذا الحب منه تعالى هو أكبر مكافئة للعبادة في القرآن الكريم.. “حب” خالق ودود يكافئ “تحببا” من مخلوق متودد..
هذه الحلقة تتمة للحلقة الأولى: فبها أمثلة عن العبادة “الطقوسية” لكثير من المسلمين الخالية من الحب..
هدفها أن نعرف بعض هذه الأخطاء الشائعة في “التدين” لنتجنبها.. وبذلك تصبح السلسلة عملية.. لا نظرية فقط.
فمن بركات التواصل الاجتماعي انه تصلني زفرات أزواج (رجالا ونساء) لا تقال مباشرة.. عسى بهذه المقالات يتغير حال أحدهم.. وحال إحداهن..
فالاستقرار الأسري شرط للدعوة.. والدعوة أصل الخلق..
نبدأ بالأعياد و”المناسبات الدينية” :
تغلب التقاليد هذه الشعائر لسبب واحد أننا لا نعظمها حق التعظيم ولا نعظم سنتها.. (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (الحج – 32).. بل إننا نقلد فيها آباءنا وأمهاتنا.. فنكون كمن (.. قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ (الشعراء 74)
الله خلق الناس شعوبا وقبائل بهدف أن يتعارفوا حتى لا يتنافروا فتنشأ حروب الكراهية.. وتفسد وتخرب الأرض التي خلقنا من أجل إعمارها..
والأعياد مناسبة للتعارف.. فمثلا صلاة العيدين مناسبتان قد يلمح الفتى المقبل على الزواج فيهما الفتاة التي ستصبح شريكة حياته في المصلى وهي برفقة والديها.. فيخبر والديه ليخطبا له من مال قلبه إليها.. -والعكس صحيح في مجتمع صحيح-..
والزواج صحبة والصحبة شرط في الدين كما رأينا سابقا..
والأعياد مناسبة للقاء الجيران وتبادل الزيارات ومشاعر المحبة وإفشاء السلام..
وأيام العيد أيام “رومانسية” بامتياز : هذه هي السُّنّة.. فمن رغب عنها فليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم :
قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم :
{ لا تصوموا في هذه الأيام ، فإنها أيام أكل وشرب وبعال }” (١)
“البعال” في كلمة واحدة “قمة الرومانسية”.. تودد وتبعل وملاعبة وسعادة.. أي زواج حقيقي.. لا زواج عادة..
أيام أكل وشرب وذكر وبعال .. صلى الله على “الرجل الكامل” وسلم.. وأعاذنا من التشدد والهوى وأن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض..
ففي واقع كثير من الناس تكون هذه المبادئ السامية مغيبة تماما..
أما الأكل والشرب: فهذا الشطر من السنة متبع اتباعا مسرفا.. أي أنه غير متبع : فالأكل في القرآن والشرب غير ما نفعل.. (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف – 31)
ونفهم من الآية انك يجب أن تتزين للصلاة.. (وهو نفس التزين لزوجك).. حتى يوم عيد الأضحى.. فتطرح لباس السلخانة الذي خلعته عليك في الصباح فقط..
وأما الذكر.. (وقليل من المسلمين من يذكر الله كثيرا) فإن كان الغالب فهو شطر كذلك من السُّنّة في أيام العيد ما لم يضف اليه الأكل والشرب والرومانسية (البعال)..
فكيف تمر أعيادنا في “وطننا العربي”.. (حتى نستفيد من أعيادنا غدا في “أمتنا الإسلامية”)..
أيام التحضير في المغرب مثلا أيام توضيب شامل للمنزل وإعداد الحلويات و”الجلالب” (جلابيب).. -وقس على ذلك كل “البلاد الإسلامية بالوراثة”.. مع اختلاف بسيط في أسماء الملابس ومقادير الحلويات..
وأيام التشريق الثلاثة في مناطق من المغرب -مثلا- تستبدل بثلاثة أيام “أهم بكثير” !! : يوم “بولفاف” (شواء كبد ملفوف بشحم) وتحضير “الكسكس بالكتف”.. ثم يوم “التقلية” (أحشاء الذبيحة) ثم يوم تحضير “المروزية” (لحم بالسكر المعسل)..
هذه التقاليد جميلة.. ما لم تطغ على سُّنّة المصطفى.. وما لم يطغ التحضير المضني والإعداد المستهلك للوقت والجهد -الذي يليه تعب ونوم.. – على السُّنّة الحلوة السعيدة.. أعني طغيان “بدعة” الغلو في تحضير “الشهيوات” (تصغير للشهوات.. في محله) على سُّنّة الأكل بلا إسراف وعلى الرومانسية.. على الحب الذي هو.. فرحة العيد..
وتسألني يا ابن أم عبد عن سبب كثرة الطلاق.. وعن استياء الرجال وهروبهم إلى المقاهي في هذه الأيام… بحثا عن “حب” الأصدقاء وبهجتهم.. وعن سعادة ضمنتها السُّنّة لهم -ولهن- ولم يجداها في عش السعادة.. لأن “الخادم” -بمحض إرادتها- المحافظة على “تراث” أجدادها الميامين -بالحرف- غارقة -جل الوقت ولأيام قبل التشريق وخلاله- في قلب المنزل من أعلاه إلى أسفله وغسل الحيطان!! (و”الجفٍّاف” أي غسل وتجفيف أرضية المنزل كلها خلال “راحة” الزوج الاسبوعية.. “جفٍّاف” في وقت خطإ يورث الجفاف العاطفي) وغارقة وسط تحضير حلويات بأنواع شتى.. ثم وسط أبخرة اللحوم والبهارات.. لا وقت لديها لتتزين لبعلها ولتتبعل ولتطبق برنامج السُّنّة -بالحرف- كما تطبق تعليمات جدتها وأمها بالحرف..
الاتباع تشبه.. واتباعها التام لجدتها.. يجعلها تذكر بعلها بجدته العجوز.. فيهرب من منزل لا امرأة جذابة فيه.. “إن نظر إليها سرته”.. هذا حديث.. أعني.. هذه سُّنّة..
سرته فأسرته بجمالها وأناقتها وتدللها في بيتها.. فكان حلس قلبها..
لكن صاحبتنا تأبى إلا أن يكون فخرها أنها تطبق العادات.. لا أنها تطبق سُّنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ثم تخبر من تعرف بإنجازاتها.. ووقوفها في المطبخ من الصباح الى المساء .. ساعات طوال.. وإرهاقها.. لتحضير ما سيؤكل في 15 دقيقة !!..
دور “ضحية” قد يستهوي نسوة ضحايا.. سماعات لها.. لكنه لا يهم الرجل أصلا ولا يستهويه.. بل يغيظه طول مكوثها في صحبة المواعين.. عوض مكوثها قربه..
وفي ذلك فلتتنافس المتنافسات..
مسألة برمجة وتنظيم وقلب للأولويات وتذكر للأهداف… لا غير..
تسطيح لمعنى العيد.. وتبخيس لقداسته..
وأما “الرجل الخشن” فمن ناحيتة حريص على كبشه أكثر من حرصه على مشاعر الناس.. بدءا بزوجه.. وأكثر من حرصه على ملاقاة جيرانه والتعرف عليهم والإحسان إليهم.. وأكثر من حرصه عليهم بدعوتهم حتى يخرجوا من دينهم الفردي إلى دين ينفع الناس والأمة.. وكل هذا الحرص دافعه “حبه” لهم.. وحدبه عليهم وخوفه على آخرتهم.. يتمثل الداعي -بحرصه ورحمته- حال الرحمة المهداة (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (التوبة – 128).. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه..
نركز على الجيران لأن “إكرام الجار والضيف” شعبة من شعب الإيمان المندرجة تحت خصلة “الصحبة والجماعة”..
وعوض هذه الأهداف السامية للعيد، قد نرى الرجل يتشاجر مع جاره على دور ذبح الجزار.. وقد يؤنب الجزار بل ويبخسه ماله إذا ما أفسد سلخ الذبيحة أو خدشها فقط (مع أنها ستقطع أصلا لتؤكل).. فنظرات الناس إلى ذبيحته مهمة جدا عند من لا يفكر كثيرا في نظرات الله إليه..
ولو كان الحرص نابعا من تعظيم هدية الله لقلنا بها ونعمت.. لكنه -كما ألاحظ وأرجو أن أكون مخطئا- حرص على لحم وشحم وجلود.. وتفاخر بذبيحة ديكور لا بهدية ستهدى إلى الله..
وتراه بعد أن يتلطخ بالدماء ويتعطر بروائح البهائم لا يسرع ليتزين للعيد ولصلاة الظهر.. وبذلك يتعطر ويتزين لصاحبته لما بقي من اليوم الطويل.. فهو بين شوي الرؤوس وتقطيع اللحوم وشره الأكل.. ومنا من يشترط على “جاريته” أنواع الأكل والشراب..
فأين هي سُّنّة الرومانسية في أيام العيد من الجانبين.. ؟؟
لقد ضيعاها بتقليدهما.. وبانقيادهما لدين آباءهما..
يضيع هو -بشرهه وتقليده- سنة الرومانسية في هذه الأيام.. وتضيعها صاحبته -كما رأينا- في “أشغال” شاغلة عن هدف العيد.. شاغلة عن هدف الدين.. (يمكن اختصارها أو إرجاء بعضها أو تفويض بعضها أو استبدال بعضها أوشراء بعضها أو مناولة بعضها أو حذف بعضها أو تبسيط وتخفيف بعضها أو تحضير بعضها بأسابيع إن لزم..) فلا يبقى لها وقت لديها أصلا “لهذه الأشياء”..
تعني المسكينة ب”هذه الأشياء” السنة المحمدية الغراء.. سنة البعال الرومانسية.. سنة السعادة..
والحمد لله أن هناك استثناءات يقتدى بها..
اللهم اجعلنا على دينك.. لا على دين آباءنا..
يتبع..
——————-
(١) روي من حديث ابن عباس ، ومن حديث أبي هريرة ، ومن حديث عبد الله بن حذافة ، ومن حديث أم خلدة الأنصاري..
