ليست هناك طريقة واحدة في التواصل الدعوي.. فلكل مقام مقال.. لكن هناك ضوابط وحكمة.. والحكمة اختيار الأسلوب الأنسب للظرف وللمحاور ولطريقته في الحوار..
ولا نخاف من الخطإ.. بل نتعلم منه.. ونبني على الصواب..
ومن معايير الصواب النتيجة..
أتى نصارى نجران -بعد سفر طويل من غرب اليمن إلى المدينة المنورة- بعد أن وصلهم خطاب من رسول الله ﷺ يخيرهم فيه بين الإسلام والجزية..
جاء في الكتاب : “بسم الله إلهِ إبراهيم وإسحاق ويعقوب. مِن محمّد رسول الله إلى أُسقف نجران، وأهل نجران. إنْ أسْلَمْتُم فإنِّي أحمد إليكم الله إلهَ إبراهيم وإسحاق ويعقوب. أمّا بعد فإنِّي أَدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأَدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإنْ أَبَيْتُم فالجِزْية، وإنْ أَبَيْتُم فقد آذَنْتُكُم بالحرب، والسَّلام”
يعيد تاريخ الدعوة نغسه -تاريخ الإسلام الحق لا تاريخ المسلمين-.. فما نجران ببعيدة عن سبإ.. وما منهاج سيدنا محمد ببعيد عن منهاج سيدنا سليمان عليهما الصلاة والسلام..
تميز وفد نصارى نجران عن سائر الوفود بمبالغتهم في الزينة.. فقد أتوا في أحسن حللهم حتى يبهروا -بحريرهم وذهبهم وألوان أثوابهم اليمنية الجميلة الغالية وأحجارهم الكريمة- قوما يغلب عليهم التواضع في سمتهم ولباسهم..
وهذا الإبهار طريقة من طرائقهم في التبشير.. أسلوب دعوي عندهم.. إلى يوم الله هذا..
ذلك أنهم يعرفون أن “العامة” جبلوا على تقدير أصحاب القوة والمال..
لكن ما لم يعرفوه.. أن رسول الله ﷺ قد صنع من “عامة” العرب والبدو، “خاصة”.. هم أولاء الذين استقبلوهم.. وصنع من الخاصة، “خاصة الخاصة”..
يروى أن رسول الله ﷺ رفض مقابلتهم.. ربما ليفشل خطتهم لإبهار الناس.. بكسر تعاليهم..
افهمهم سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- ذلك، فغيروا ملابسهم ولبسوا زي الرهبان..
ولا يخيفنكم تعصب بعض النصارى.. أو وصفهم لبعض ما تقولونه بالشتم والاستفزاز.. فلم يسلم سيدنا رسول الله ﷺ من هذه التهمة..
فمما جاء في جدالهم الطويل معه ﷺ عندما دعى ﷺ اثنين من ممثليهم إلى الإسلام، أنهما قالا:
– إنا أسلمنا قبلكم
فرد ﷺ :
– يَمْنَعُكُمْ مِنَ الإِسْلامِ ثَلاثٌ: عِبَادَتُكُمُ الصَّلِيبَ، وَأَكْلِكُمْ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَزَعْمُكُمْ أَنَّ لِلِّهِ وَلَدًا
– ما لك تشتم صاحبنا
– وما أقول؟
– تقول إنه عبد الله
– أَجَلْ، إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ
ثم واصلوا..
– هل رأيت إنسانًا قَطُّ من غير أب، فإن كنت صادقًا فأرنا مثله؟
فخرجوا من عنده ﷺ..
ثم أنزل الله تعالى الجواب الكافي الوافي : {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران: 60].
وقد أورد الحوار -الذي دام أياما- الواحدي ونقله كثير، منهم ابن تيمية وأكدته رواية السيوطي الذي اعتمد على ما قاله ابن عباس رضي الله عنه ورحم كل علمائنا..
ولما أكثر الأساقفة جدال رسولنا ﷺ.. ولم يريدوا أن يقتنعوا حتى بالوحي الذي أفحمهم بعد أن أجابهم بنفس منطقهم جوابا عقليا كافيا وافيا..
مر رسول الله -الموحى إليه ﷺ- إلى مستوى آخر في الدعوة.. ألا وهو المباهلة.. سواء كان الأمر مبادرة منه أو قبولا له بها..
أحضر ﷺ من آل بيته فاطمة وعليا والحسن والحسين.. عليهم سلام الله ورضوانه أجمعين.. وطلب من النصارى إحضار عائلاتهم.. والدعاء بأن يجعل الله لعنته على الكاذبين..
قال الله لا إله إلا هو: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}
خاف الأساقفة من يقين سيدنا محمد ﷺ.. فكيف يغامر شخص بأولاده هكذا.. لو لم يكن على الحق.. وقبلوا حكمه ﷺ بالجزية..
منع نصارى نجران استعلاؤهم.. ومنعهم المال المتدفق من الكنيسة الأم في الشمال (كما هو الحال الآن) ومن جيوب المؤمنين بهم..
كما منع الاستعلاء ملأ فرعون من قبل وكهنته: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14].
ومن جهة أخرى، يتعالى بعض المسلمين أو ربما يخجلون أو يخافون من خوض جدال مع أهل الكتاب حول التثليث وما عندهم من تحريف.. (ربما مخافة أن يخسروهم.. أو أن يظهر نقص في معلوماتهم..).. مع العلم أن هذه المسائل التي تظهر لهم “شكلية” أو “ثانوية”، هي “الأولويات” التي سيبدأ بها المسيح بن مريم نبي الإسلام -عليه السلام- حينما سيعود إلى الأرض.. ليخلص العبادة لله وحده..
قال خاتم الرسل والنبيين، نبي الإسلام سيدنا محمد ﷺ :
“وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا؛ فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلُهُ أَحَدٌ”..
