ذكرنا في الحلقة الماضية أهميّة النصيحة في الدين.. واليوم نتطرق إلى طرقها وشروطها وبعض آدابها..
فإن كان من الذوق قولها سرّا حتى لا نحرج المنصوح.. فإن من الذوق -في بعض الحالات- قولها علنا.. حتى نتجنب أن تقع الأمة كلها في حرج لسكوتنا.. كما نصح العلماء الحكام مثلا.. لكن لهذه النصيحة أدبا.. وذوقا..
1. أن يكون الدافع الصدق والحب والحدب على المؤمنين والخوف عليهم لا الانتقام ولا الانتصار للنفس ولا التعيير ولا التبكيت ولا التشهير ولا الانتقاد أو التنقيص والتبخيس..
ومن الشجاعة في النصح -خصوصا في دول تخلط بين المشكل والشخص.. وتتجنّب الخلاف والمعارضة (conflict/confrontation avoidance/).. والرأي الآخر غالبا بل وتبحث عن توافق هشّ وتفضّله.. (انظر الرسم أعلاه (1))- ان ينتظر الناصح أن يتهم في نيته.. وقصده..
وليس المتهَم ولا المتهِم بقادرَيْن على تقديم الحجة على ذلك..
فليصبر.. وليحتسب..
وقد يستغل النصح -في زمن الوسائط- المغرضون..
وهذا وارد.. لكن..
لا يثنينّك محتملٌ عن واجب..
2. أن يتجنب الناصح الكلام المعنِّف المجّاني وأن يدلي الناصح بالحجة والدليل على ما يقول {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل – 125)
3. أن يراعى السياق وحالة المنصوح والناصح في النصح سرا أو علنا، شفاهة أو كتابة.. وهكذا : قال ابن حزم رحمه الله : “إِذا نصحت فانصح سرا لَا جَهرا ، وبتعريض لَا تَصْرِيح ، إِلَّا أَن لَا يفهم المنصوح تعريضك ، فَلَا بُد من التَّصْرِيح” (2)
وإن من الناس من لا يستمع القول فيتبع أحسنه.. بل “يسمع” ثم يعود ليستمع إلى ما تملي عليه نفسه.. كأن لم يسمع.. وقد تكون الكتابة أجدى في هذه المواقف.. حتى لا يضيع النصح في الأثير فقط..
4- الصحبة : فإن القول المباشر يجب أن يهيأ له بالصحبة وبالتدرج أو بالمثل أو بالحوار مثلا كما في قوله تعالى : {قال له صاحبه وهو يحاوره: أكفرت..}..
فالظاهر أن صحبته (صاحبه) ومحاورته سهلت عليه أن يتهم من يحدث بالكفر.. دون أن يأخذها بمأخذ التعنيف..
والصحبة هي من أجازت رفع الكلفة وقول سيدنا أبي بكر وقول عمر رضي الله عنهما “ثكلتك أمك” قبل تقديم النصح لرجال الإمام الأكبر صلى الله عليه وسلم..
فإنه حين قال عمر رضى الله عنه لأبي بكر : فإن الأنصار أمرونى أن أبلغك أنهم يطلبون إليك أن تولى أمرهم رجلا أقدم سنا من أسامة، وثب أبو بكر رضى الله عنه كالأسد الثائر ، وكان جالسا، فأخذ بلحية عمر رضى الله عنه وصاح : ثكلتك أمك وعدمتك ياابن الخطاب ! استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرنى أن أنزعه ؟!
فلما رجع عمر إلى الأنصار سألوه : ماصنعت ؟!
فقال عمر رضى الله عنه : امضوا ثكلتكم أمهاتكم , مالقيت فى سبيلكم اليوم من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم !.
“وثب” الوقور وأخذ بلحية “الفاروق” وقرّع.. وأغلظ له القول..
هذا هو اللّين في هذا الموقف.. الذي يعاد النظر فيه في أمر الله ورسوله !.. “لين القوة” من أبي بكر اللّين..
لين القوة في الحق.. لا لين الضعف في القول فقط..
فلا تخلط القوة في الحق بالعنف وقلة الأدب ولا اللين بالضعف وكتمان النصيحة أو الإخلال أو التنقيص من محتواها..
وإن التواصل كما رأينا في سلسلة فقه الريادة (3) يتخذ أشكالا مختلفة لا نمطا واحدا.. منها اللّين في القول أو الشدة أو الإعراض أو التجاهل أو السكوت أو التجهم أو التبسم أو الإغلاظ أو الهجر أو البر والقسط المصاحبة بالمعروف أو القول البليغ.. حسب الظرف والمحاور..
فاللهم آتنا الحكمة لاستعمال الأسلوب الأجدى في الظرف المناسب..
5. أن يكون من يتصدى للنصيحة عاملا بما ينصح به : {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُون} (البقرة – 44) .. لا متكلّما فقط..
6. العدل : أن لا يستثنى من النصح أحد.. فإن من الناس من تمنعه المناصب والمواقع والنفسيات والعقليات من تعميم النصح.. فيستثني ما لم يستثنه الله في حديث النصيحة الذي شمل الحكام كذلك (الرجوع الى الحلقة 3)..
وإن مما أهلك بني إسرائيل أنهم “كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد”..
وإن نسيت شرطا أو أدبا فانصحون..
بقلم : مصطفى شقرون
__________________________
(1) نشرة هارفرد Harvard Busines Review 2015 بتصرف بسيط (حذف للكيان الصهيوني)
(2) “الأخلاق والسير” – ص 45
(3) سلسلة فقه الريادة الحلقة …
