“ليس مشكلا أن توصف بالإرهابي.. المشكل أن تعتذر.. وأنت لم تفجر ولم تنفجر “
لماذا أكتب بعد 18 سنة من الواقعة؟
زرت اليوم صديقا قادما من كندا.. لا ينتمي الرجل لأي تنظيم له مشروع إسلامي.. ربما يمنعه من ذلك الخوف أو الخبز أو هما معا.. لكنه يقوم بواجباته الدينية بشكل فردي غير متعد.. تحدثنا عن المهاجرين وعن المسلمين خاصة.. فكان مما قال أنه قبل أيام قام شخص من أصول باكستانية بتصويب مسدس رشاش نحو عدة أشخاص أبرياء ومن بينهم أطفال.. لا يجادل إنسان سوي أن ما حصل غير سوي.. وأنه فظيع.. يحدث في بلد آمن لا يظلم فيه أحد.. فظيع ما حدث لأنه ببساطة جريمة.. جريمة تضاف إلى آلاف الجرائم الفظيعة في أميركا الشمالية..
ما دفعني للكتابة أن صديقي أضاف: “عندما تحدث أشياء كهذه نذهب إلى العمل ونحن مطأطئو الرؤوس لا نجرؤ على النظر في وجوه الكنديين.. “..
صدمني جوابه لعدة اسباب:
أولا.. صديقي يحمل الجنسية الكندية.. يخجل من كنديين مثله كانوا أوروبيين فحملوا نفس الجنسية قبله بعد أن وضعوا الكنديين الاصليين في محميات.. كما فعل من سيصبحون أمريكيين مع الامريكان الأصليين..
ثانيا.. أصول صديقي مغاربية افريقية.. وأصل المجرم باكستاني آسيوي..
ثالثا.. حين قام شبان أمريكان بإطلاق الرصاص في المدارس على طلبة..و قد حدث هذا مرارا.. وحين يتم قتل مسلمين هناك… لا يخجل أحد من أحد.. ولا يذهب النصارى منهم إلى عملهم مطأطئي الرأس… ولا إلى كنائسهم خجلين..
للإشارة فصديقي يقطن على بعد 3850 كيلومترا من العاصمة.. 40 ساعة بالسيارة.. أعني انني رغم زياراتي لكندا لا أعرفها لشساعتها ثم إن العنصرية ليست مسألة تحد جغرافيا.. انها مرض يصيب أشخاصا اينما وجدوا.. ففي المغرب مثلا حيث أسكن، أسمع من مغاربة مثلي -من بعهضم- أوصافا عنصرية اتجاه أناس من نفس قارتهم.. ولا سبب يجيز ذلك..
ليست العبرة بالبلد في هذا المقال إنما العبرة بردة الفعل الدفاعية لغالب المسلمين حيثما كانوا وحتى في بلدهم..
ليس المشكل في أن يصفنا الآخر بالإرهاب كلما قام أحد بعمل مجنون.. هو حر فيما يعتقد.. حر في اختيار عدوه.. المشكل أن نصدقه.. المشكل أن نشعر بأننا متهمون..
لقد عملت قرون الاستبداد عملها فينا فأصبحنا نرى انفسنا متهمين حتى تثبت براءتنا..
في 11/9 (الحادي عشر من سبتمبر 2001) كنت أعمل في المقر الأوروبي لشركة أمريكية.. اتصلت بي زوجتي وأخبرتني بأن برجي منهاتن قد فجرا.. ما إن وضعت السماعة حتى امتلأ مكتبي بالكامل بأطر من كل الجنسيات.. دخلوا.. بدون استئذان.. لكني لم أعد “هجومهم” هذا إرهابا.. لقد تفهمت الوضع..
خاطبني “براد” الشاب الأمريكي ذو الأصول الأسيوية مباشرة.. “هل سمعت بما جرى؟” فقلت “نعم!.”.. ولم أزد شيئا.. فسكت للحظة لأنه كان ينتظر مني جملة.. شرحا.. اعتذارا.. استنكارا.. تنكرا.. أو ما لا أدري..
بعد لحظة واصل مباشرة وهو يخاطبني أنا بالذات.. “لماذا يستهدفوننا؟”..
كان الكل ينظر إلي..
فقلت له ولماذا تسألني أنا؟ أنا لم أستهدف أحدا.. لم أفجر برجيكما.. هل يتعلق الأمر بكوني مسلما.. ؟
لم أطأطئ رأسي.. ولم أدافع.. ولم أشعر بأني متهم.. ولماذا أفعل؟ أنا في مكتبي.. ولست إرهابيا.. وبالفعل لا أذكر أني فجرت برجا في ذلك اليوم..
كانت فرصة لكي يعرف الأطر الحاضرون المتفرجون غير المحايدين أن هناك شيئا آخر غير تقسيم العالم الذي يعرفونه: بيض جيدون طيبون وملونون متهمون.. خصوصا إن كانوا مسلمين..
أعاد “براد” وكأنه لم يسمع جوابي “لماذا يقصفوننا؟”
فقلت لبراد : “براد.. لقد سألت سؤالا خاطئا”
فاندهش من ردي وسأل “كيف ذلك؟”
فقلت له: “السؤال الأصح الذي كان عليك طرحه هو: لماذا لم يقصفوا فنلندا؟”
اندهش الجميع وفهموا أن المشكل في المقصوف… قبل القاصف..
في تلك الاثناء لم يكن معروفا من فجر فعلا .. ولا زلنا لا نعرف بالتحديد من فعل ولم فعل بعد أن أقبرت كل الآثار..
واصل “براد” : “لكن نحن بعيدون عن منطقة المشاكل”.. فقلت له بكل هدوء “وكذلك العراقيون بعيدون وقد قتل منهم الأمريكيون مليون عراقي.. اطفالا ونساء ورجالا.. ومن قبلهم الڤيتناميون.. وهم بعيدون عنكم كثيرا.. ليس بينكما حدود جغرافية… لقد أقحمتم أنفسكم في ما لا يعنيكم.. وألبتم عليكم أحقادا أنتم في غنى عنها”..
هنا قال “براد” وقد فاجئني بسرعة تغييره لموقفه وكذلك بإلمامه بما هو أكبر مما تردده فضائياتهم “نعم فعلا إننا لا نملك ارادتنا كليا.. نحن نقحم أنفسنا في حروب من أجل إسرائيل.. فعلا.. لقد بدأ بعض الكتاب عندنا في انتقاد هذا الانصياع الكلي لإسرائيل.. لقد ورطونا”..
ليس المهم من هذا المقال تحليل “براد” لما وقع في الخليج لكن المهم (الذي دفعني لمشاركة هذه التجربة الصغيرة جدا) هو أنني لو كنت اعتمدت أسلوب الدفاع للعب الرجل دور الضحية إلى آخر رمق.. ولكنت الجلاد في نظر الجميع إلى الآن (وأنا من يمثل الإسلام أمامهم.. ).. لقد أدت فكرة “فنلندا” إلى وضع “براد” في موقف “المدافع” بامتياز.. في موقف “المعتدي” على شعوب ليست لها حدود جغرافية معه.. فالعنف يولد العنف.. وبلده هو من بدأ مسلسل العنف..
لا أقبل العنف ولا أحبذه وليس العنف في ديني وسيلة للتغيير أبدا (وإن وجدت بعض الاستثناءات في الفهم لدى أفراد قليلي العدد يمثلون صفرا بالمائة %0 من المسلمين المليار والنصف) لكن لا أقبل أن أحمل أخطاء لم أقترفها..
لقد نجحت 15 قرنا من الظلم الداخلي والخارجي أن تجعلنا في موقف المدافع دائما..
يصموننا بالعنف فندافع.. ولا نذكرهم أنه قبل 1948 لم يحدث أن وصفنا بالإرهاب..
لا نذكرهم بأنهم على رأس قائمة العنف في التاريخ البشري وبالملايين*:
– 240.700.000 قتيل لاحتلال الامريكتين ولتنصيرهما
– 106.000.000 قتيل في الحربين الأوروبيتين
– 60.000.000 قتيل أثناء تجارة العبيد الثلاثية**
-… إلخ..
واللائحة طويلة أغلب من فيها أوروبيون وأسيويون.. وليس فيهم مسلمون..
لقد كانت فرصة ليفهم الحاضرون أنهم ضحايا تجهيل إعلامي ممنهج.. وأن “مسلم المصلحة الإدارية” (حتى أجاري تعبير الفرنسيين “عربي المصلحة” “l’arabe de service”) ليس عنيفا عاطفيا زيادة عن اللزوم وليس خانعا ولا يعتبر نفسه إرهابيا.. ولا يعتبر أهله المليار والنصف إرهابيين.. تماما كما لا يعتبر الباسك ارهابيين ولا الارلنديون.. وكم فجروا.. ولا يعتبر نفسه أقل ممن استعمروه بل يواجههم -بهدوء وبالأرقام- -متى ما حاولوا شيطنته- بخطيئاتهم وفظائعهم التي تفوق بآلاف المرات ردات الفعل العنيفة المتسرعة هنا وهناك عن ظلم عنيف يطال المسلمين..
انصرف الجميع على نبرة دفاع براد عن أخطاء بلده..
والحمد لله أن خرج الإسلام بريئا محترما أمام هؤلاء الحاضرين.. برغم فداحة الحادث..
بعد هذا “الهجوم” الذي تعرضت إليه في قعر مكتبي من طرف “ائتلاف متعدد الجنسيات”.. تعرضت في نفس الأسبوع لهجوم فعلي استهدف شخصي.. كنت على طريق سيار في بلد ما بأوروبا فتوقفت في محطة استراحة مهجورة مقفلة مرافقها.. لم يكن هنالك أحد وابتعدت عن الطريق السيار حتى لا يراني السائقون وأنا أصلي.. لا أريد استفزاز أحد.. في اثناء الصلاة.. وقفت قبالتي سيارة – على بعد مترين فقط لكن كان يحول بيننا ارتفاع الرصيف ببضع سنتيمترات- كان بداخل المركبة عدة شبان تبينتهم حين سلمت.. بدأوا في الصراخ والسب وأطلقوا صوت زامور سيارتهم في مشهد هيجان وتوعد.. إرهاب..
كنت في جلسة السجود الأخيرة.. انظر إليهم بعد أن سلمت.. لم يكن ميزان القوى في صالحي بالمرة… المهم أني لازلت حيا أحكي ما وقع.. والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين..
لماذا ندافع دائما؟
آن الوقت أن نتحرر من عقدة الذنب..
لماذا نعتذر عقب كل عملية لم نقترفها ؟..
إلى يومنا مات عشرات الملايين ورموا في البحر إبان الرواج الثلاثي لتجارة العبيد.. لم يعتذر مقترفو هذه المذابح عن ذلك..
إلى يومنا هذا لم تعتذر الدول التي استعمرت بلداننا وقتلت الرجال والاطفال واغتصبت النساء والمعادن والأرض… وكانوا ينعتوننا بالإرهابيين كلما حاولنا استرداد أرضنا.. وشرفنا..
ونحن نعتذر ونحني رؤوسنا خجلا من أجل ما يقترفه غيرنا..
آن الوقت لأن نتحرر من عقدة ذنب لم نقترفه..
ما دمت ضد العنف.. فلا شأن لي بالمجرمين..
لايهمني -كشخص- من انفجر ولم انفجر.. ما دمت أنا لا أنفجر..
المراجع
* List of wars and anthropogenic disasters by death toll (wikipaedia)
** DEATH TOLL FROM THE SLAVE TRADE: THE AFRICAN HOLOCAUST (http://www.worldfuturefund.org)
