بلغة عربية سليمة.. لكن غير “عاربة”.. وبلكنة تفخم الألف كنطق أهل لعراق.. بادرني شاب في الثلاثين من عمره -وكنت أقرأ القرآن بصوت خافت لأسمع نفسي- قائلا :
– إنك تقرأ القرآن بشكل جيد.. أنا أراك يوميا هنا.. من أي البلاد انت ؟
بداية استمالة جيدة.. لكن غير مجدية..
– من المغرب.. وانت ؟
انفرجت أسارير الشاب عند سماع “المغرب” فقال..
– أنا من إيران..
غريب.. مع كثرة أسفاري ومعارفي من شتى الجنسيات حينها.. إلا أنني اكتشفت أني -برغم كل ما نسمعه ونقرأه عن الشيعة الإيرانيين- بأني أقابل لأول مرة إيرانيا.. شيعيا..
كان يتحدث بصوت خافت.. ينتقد أهل البلد الذين طمسوا كل ما يتعلق بآل بيت رسول الله الطاهرين الطيبين..
تذكرت وصية سمعتها عن إمامي بعدم الخوض في جدال مع الشيعة خصوصا في أيام الحج.. فكنت استمع أكثر مما اتكلم.. لكني لا أجادل..
ثم قال لي ما معناه أننا في المغرب استقبلنا آل البيت.. يعني المولى إدريس.. رضي الله عنه.. أي أننا أقرب إلى الشيعة..
أفهمت الشاب بأدب وبقليل كلام أن حب آل البيت -عليهم السلام- لا علاقة له بالتشيع.. هو واجب ووصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وبذلك نكون أقرب إلى آل البيت.. لا إلى الشيعة..
(قلت “عليهم السلام”.. لأبين لمخاطبي أن ذلك لا يجعل مني شيعيا.. ولا يميز الشيعة عن غيرهم.. لأننا -أصلا- نصلي على آل البيت في تحيات الصلاة..
“اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد..”)
ثم أورد “حديث غدير خم”.. ليبين أن هناك تميزا.. وأن أمر الوراثة والخلافة يؤول لآل البيت وحدهم.. لا لغيرهم..
وفي الحديث -الذي اكتشفت أنهم يسمونه بماء خم الوارد فيه- قول رسول الله “من كنت مولاه فإن عليا مولاه”..
فقلت له : أنا لساني عربي.. وأنت لغتك الأم فارسية.. هذا الأسلوب لا يعني أبدا -في العربية- صك وراثة ولا خلافة أو إمامة.. وإنما هي نصرة ومحبة.. وقد جاء في الأحاديث ما هو مماثل -بل أقرب لتأويل الوراثة- قيل لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.. ولغيرهما..
وأن القرآن الكريم جاء فيه أن وراثة الأنبياء ليست حتمية ولا تقتصر على النسب الطيني.. وأن الإمامة أو الخلافة مسيجة بالشورى..
{وأمرهم شورى بينهم}
{قال : ومن ذريتي؟.. قال لا ينال عهد الظالمين}
ثم مر المبشر المتمرس المدرب إلى العاطفة بعدما لم يسعفه المنطق واللغة وأمر القرآن بالشورى في اختيار الإمام..
فقال لي -مكررا انتقاد حكام الحجاز لطمسهم آثار النبي ظانا أني بكرههم سأرتمي في أحضان مناقضهم- :
– نحن عندنا خرائط تبين الأماكن التي طمست.. أتريد أن ترى قبر السيدة فاطمة الزهراء ؟
فقلت له : بالطبع.. ومن لا يريد زيارة قبر أمه ؟
واغرورقت عيني.. لأني أحسست لأول مرة بقرابة ما.. وانتساب..
استغرب الشيعي وهو يرى من يحسبه “سنيا” يبكي لذكر آل البيت..
لقد زادت مهمته صعوبة.. كيف يبيع حب آل البيت لمن شهدت على حبه عينه.. لا كلامه..
ذهب الرجل وهو يعلم الآن أن أغلب سكان المغرب من آل البيت نسبا وصهرا وقلبا..
عاد الرجل بعد يومين وقال لي : إنك مدعو غدا للغذاء.. سآتي ظهرا لنذهب سويا..
قلت له أني في لعتكاف.. درأ لجدل منتظر.. فأصر لأنه كان قد حضر كل شيء.. فلم أشأ إحراجه..
فقلت في نفسي “إذا دعيتم فأجيبوا”..
يتبع.. إن شاء الله..
