لا نزال بصدد تأصيل مفهوم “الريادة” الجديد.. حتى نزايله عن مفهوم “القيادة” الكلاسيكي..
لقد تعمدنا استعمال كلمة مختلفة “الريادة” للتشديد على التميز بين مفهومين مختلفين.. وليس الفرق في المفردات المستعملة بل فيما تحمله من معان وآفاق..
“إن الرائد لا يكذب أهله”.. هذا أساس سيساعدنا على تعريف “الريادة” لاحقا.. فما هي أبعاد هذا الكذب؟
في الحلقة السابقة رأينا أبعاد الإنسان الإثني عشر (12) التي يجب على الرائد أن يأخذها بعين الاعتبار في تعامله “الصادق” مع “أهله”.. (“أهله” تعبير أعمق من “فريقه”.. فالرائد الناجح هو من يصل إلى حب فريقه وجعلهم “أهله” كما سنرى لاحقا)..
ومن بين هذه الأبعاد ما هو مادي ملموس (كحاجيات الجسم وتجربة الموت المرئية ثم المذاقة) وما هو شعوري فطري مشترك بين البشر (كالبحث عن عالم آخر وعن خالق للكون ونشدان الخلود وبصيرة التمييز بين الخير والشر..)
وإن الكذب في التعامل مع إحدى هذه الأبعاد ينزل “الرائد” إلى دركات ليست من الريادة في شيئ.. فيكون “مطاعا” برغم كذبه.. لكن لا يكون “رائدا” بأي حال أبدا..
“إن الرائد لا يكذب أهله”.. فما هو يا ترى هذا الكذب؟
نرجع إلى الوحي لنرى معنى الكذب وأنواعه وأبعاده.. من علٍ..
أوصى النبي ﷺ بتلاوة القرآن وتعهده وحدد لبعض الصحابة دورية لذلك..
وإن في هذا التحبيب لفضلا لا نحيط به.. لكن قد يكون من بين هذا الفضل استنباط مفاهيم جديدة قد تظهر لنا إذا ما تتبعنا كلمات معينة لا نعيرها وزنا في كلامنا.. ومنها لفظة “كذب” التي غالبا ما تحمل على الكذب في القول فقط..
تتبعنا لآيات القرآن جعلنا نخلص إلى 3 أنواع من الكذب :
1- كذب على النفس (أي عدم سماع نداءات الفطرة الداخلية -أي تجاهلها-)
2- وتكذيب بالرسل حاملي الوحي (ومنه قول المكذبين “إن انتم إلا بشر مثلنا”): وهو غير التكذيب بالوحي
3- وتكذيب بما جاء به الوحي (من آيات ومن غيب وخلق وساعة وبعث ولقاء لله وخلود وجزاء).. قد لا يكذب الرسول المشهود له بالأمانة وحسن الخلق لكن قد يشكك في ما وحى إليه لعدة أسباب (منها معارضة الوحي لبعض المصالح والامتيازات.. كتحرير الناس ومنع البوائق المدرة للربح تجاريا ومنها استغلال السلطة للاغتناء عبر الريع بالمال العام واحتكار قطاعات اقتصادية مربحة واقتطاع أراض ومنها المتاجرة بأعراض الناس وأعضائهم وبيع الخمور والمخدرات والربا والقمار وغيرها..)
ومن أنواع الكذب الثلاثة المذكورة، يتفرع التكذيب بجل أبعاد الإنسان الاثني عشر ..
وإن الكذب على النفس هو أشد أنواع الكذب –في نظرنا- وهو الذي يقدح في قيادة “القادة”.. فيحيلهم “مضلين” (Mis-leaders & Mis-leadership).. ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ – الأنعام144
وإن الكذب على النفس يؤدي إلى تكذيب الوحي ومن جاء به (انظر الرسم)..
فإن الفطرة تجعل الناس يحسون –بل يوقنون- بصدق الداعي.. لكن لسبب ما -غالبا ما يكون الكبر والحسد- يكذبون على أنفسهم وبالتالي على من معهم.. وهذا تضليل.. وليس ريادة.. واقرأوا هذه الآية: ﴿فإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ – الأنعام33 –
وإن الفطرة تجعل الناس يحسون –بل يوقنون- بأن هناك “شيئا ما” لا يرونه.. لكن نكران هذا الإحساس وحمل الناس (الفريق) على نكرانه أو تجاهله.. كذب وعدم اهتمام بما يحسون به.. ظلم لهم.. ولنفسه..
﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ﴾ – الأنعام24-
﴿سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ﴾ -الأعراف177-
أمر في الوحي ألا نتبع من يتجاهل الأبعاد الغيبية التي لا تتأتى معرفتها إلا من خلال القلب المتلقي عن الوحي.. الغيب عنصر مهم في تركيب الإنسان.. فطرة..
﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ -الأنعام150-
﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا﴾ -الأنعام 157-
ونحن لا نتبع الظالمين.. ولا نتبع الخاسرين.. و ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ – يونس45-..
ما كانوا مهتدين..
فكيف يهتدي بهم فريقهم..
إن فطرة كل الناس مجبولة على البحث عن خالق وعن حياة بعد الموت..
فإن طمر القائد فطرته فلا يحق له -عدلا- أن يدفع أعضاء فريقه لكبت أهم عنصر في تكوينهم.. روحهم.. وفطرتهم..
فإن فعل فقد ظلمهم وأضلهم..
وليس يملي هذا هذا المعيار تديّن وليس يستوجب تدين القائد باعتقاد معين.. إنما تمليه ضرورة احترام أهم عنصر في الإنسان: روحه وفطرته.. وإنا لنحترم قادة قالوا لأقوامهم “اختاروا لأنفسكم” حين تعارض قرارهم أو اعتقادهم بنداء فطرتهم الداخلي فآثروا الانسحاب على الكذب..
ولا نحترم من دفع قومه إلى حروب بمحض “فكرة” غير نابعة لا من فطرة ويقين ولا من كتاب منير..
وإن الإسلام -دين كل الأنبياء من لدن آدم- (عليهم السلام) دين الفطرة.. فليس في جِبِلَّة الإنسان ما يُنافي الإسلامَ لله إلا إن انحرفت الجبِلَّةُ ومالت مع الهوى..
قال الله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون﴾ … ف”الفطرة التي خلق الله الناس عليها هي قَبولُ ألوهيته سبحانه والخضوعُ له، وهو معنى الدين”.
وسلامة الفطرة تكون بسلامة القلب المجبول على الإيمان بالله جل وعلا ومعرفته واستعداده لتلقي الإيمان بالله عز وجل وبغيبه، وكفاءته لمعرفته سبحانه وتعالى على ما يتجلى له ويعلمه.1
وإن الصدق مع النفس محك لأغلب من سمّوا عبر التاريخ “قادة”..
وأن هذا المعيار “الكذب” على الفطرة والتكذيب بما “وراء الطبيعة” الغيبي المعتمد على “وحي لا اختلاف ولا تناقض فيه” يخرج من “لائحة الريادة” أغلب قادة التاريخ الذين اعتمدوا على “هواهم” فأضلوا من تبعهم بغير علم.. ولا رؤية مستقبلية صحيحة..
ولا يزالون..
__________________________
1- ما جاء من ذكر الفطرة في الفقرات الثلاث (السابقتين وهذه) هو من إمامة الأمة بتصرف
