بسم الله للرحمن الرحيم
هناك أمر لطالما جثم على صدرنا منذ أعوام.. تفاقمت مظاهره حسب الاستشارات التي تصلنا.. وبالنظر إلى الأرقام التي تعضده.. ارتأينا أن نشير إليه هنا..
لا يجب أن ننسى أن معظم المؤلفات حول التسيير والقيادة والمقاولة كتبت في أمريكا وترجمت في أوروبا..
وهذه بلدان العدل وتكافئ الفرص.. حاليا (ولا ننسى أنها كانت السبب الرئيس للنهب الاستعماري الذي شجع ما تلاه من نهب محلي -متغاضى عن عواقبه دوليا- لأنه يخدم النهب المستمر للمستعمر السابق)..
يقرأ بعضنا -بحماس- عن نجاح المستثمرين وأفكارهم هناك.. فيشرع في التقليد الحرفي هنا.. وينسى أن في بلاده المفقرة.. تسرق أفكار الشباب في البنوك ويرفض طلب تمويلهم لتعطى الفكرة “المرفوضة” لصديق البنكي أو لابن الوزير ومعها القرض أضعافا مضاعفة..
وينسى من يشجع على المقاولة أن المغامرة مختلفة تماما هنا.. فليس اكتساب التقنية كافيا ولا إبداع الفكرة كافيا ولا حتى الشخصية الحيوية كافية في بلاد أصبحت الرشوة فيها مؤهلا لخوض غمار الصفقات والمناقصات..
والأمر المضحك الغريب أننا نستشار من قبل أشخاص يرفضون التمويل البنكي “ورعا” كي يمولوا مناقصة حازوا عليها “برشى”… (رشوة مدفوعة قبل فتح المناقصات لربح الصفقة.. عدا المطلوبة ممن ربح الصفقة عن جدارة.. ولا الرشى المطلوبة لتسريع عملية دفع المستحق للمقاول بعد أداءه لعمله حيث يكون في موقف أضعف.. وقد يمنع من حقه تجبرا وإجبارا له للدفع لأخذ ما هو من حقه)..
كل ذلك بدعوى أن “الكل” يفعل ذلك.. وهناك من لا يفعلون.. هناك من قرر عدم التعامل مع إدارات الدولة لهذا السبب.. والله يرزق من يشاء بغير حساب..
دين سطحي.. يبرر سرقة رزق شخص آخر.. ويمتنع عن أكل “ربا” في وضع استثنائي مرحلي..
والأدهى أن كثيرا ممن يشجعون على المقاولة شبابا حديثي عهد بشهادة.. لا يعرفون بالتفصيل وبالعمق في التحليل -ناصحين ومنصوحين- مؤشرات البلد الذي سينشئون فيه مقاولتهم..
مؤشرات لا علاقة لها بمؤشرات الأوروأمريكي الذي رأوه -في النت- يشجع على خلق المقاولات.. والمغامرة..
لا يعرفون ان ثلثي ناتج بلدهم مديونية.. وأن غالب الدين يستعمل لأغراض شخصية.. ولا يعرفون ترتيب بلدهم في لائحة الفساد والارتشاء ل”ترنسبارنسي انترناشنل” ولا ترتيبهم في التنمية ولا في الجهل ولا في الفقر والعوز.. ولا حصة الاقتصاد المستتر غير المهيكل في الناتج العام.. ولا فكرة مرقومة لديهم عن اختلاط السياسي بالاقتصادي.. بل عن زواجهما غير الشرعي.. ولا عن الطبقية الصارخة المدوية.. والتي تنبئ عنها ثروات الحاكمين وواجهاتهم من “رجال أعمال” وأجور المسحوقين -إن وجدت أجور أصلا- وجفاف أرضهم وضياع عرضهم..
ولا عن مصدر السيولة -المعروف لكن غير المعلن- في سوقه بل في بلده.. ولا عن الاستقرار السياسي والاقتصادي.. ولا عن أسباب فرار المستثمرين الأجانب.. ولا عن نسبة الريع في الاقتصاد.. ولا عن وأد الصناعة حتى نبقى زبناء تابعين مستهلكين لما يصنعه الأسياد.. ولا عن عدد المقاولات التي تغلق بعد أشهر قليلة من إنشائها.. ولا عن التهريب الممنهج للعملات الصعبة.. بل النزيف.. ولا عن بخس الموارد الطبيعية وتهريب المعادن منها.. ولا عن التبذير في ميزانيات المؤسسات العمومية.. وووو…
مؤشرات موضوعية مرقومة. وجب تحليلها.. لأن معرفة السوق والبيئة الاقتصادية حاسمة في خلق المقاولة في بلد ما..
ولقد ارفقنا مبيانا للبنك الدولي يمثل التدهور المستمر فرص الاستثمار في بلدنا (doing business).. من سنة 2006 إلى غاية 2020 الحالية..
نحن لا نبث -بمقالتنا- التشاؤم ولا نحبط.. ولا نبخس التجارة الحقة حقها.. لكن من واجبنا أن نخبر من نريد منهم أن يقووا اقتصاد عالمنا الإسلامي اليوم وغدا… حتى لا ينقلوا نقل الببغاء وحتى يبدعوا في التنزيل والمطابقة لواقع اقتصاداتهم البئيسة..
هناك نجاحات.. لكن نسبتها أقل بقليل من النجاحات التي نسمع عنها في دول العدل.. بل لا مجال للمقارنة.. وما مقالنا الا لننبه أن علينا -في بلادنا المستنزفة يوميا..- أن نفقه واقعنا الاقتصادي والمالي والسياسي جيدا.. لنبدع أكثر.. ونتأقلم بشكل أفضل.. ولينجح من نجح عن بينة..
إنه لم يرد نص صريح ـ فيما نعلم ـ في تفضيل التجارة على الإجارة.. (وإن كنا شخصيا نفضلها) وتبقى المسألة رهينة بالزمان والشخص والظروف والمكان.. فقد اشتغل سيدنا موسى أجيرا لمدة ثمان سنوات.. وكان سيدنا داوود صانعا.. عليهما وعلى سيدنا محمد الصلاة والسلام.. وكان من الحواريين والصحابة الفلاح والبناء والصياد والقصاب (الجزار) والدلال و التاجر والأجير بل وحتى العبد المملوك -اضطرارا- زمنا..
وأذكر اننا نصحنا أحد المقاولين المتحمسين بالتوقف -خوفا عليه لما آنسنا من عدم معرفته بأبجديات التسيير من مراقبة داخلية وتحليل مالي وتوقعات ودراسة جدوى وتفريق بين المردودية والسيولة.. علما بأن هذا الخلط هو السبب الأول في إغلاق الشركات بالمغرب..- نصحناه بالتوقف عن مشاريعه، والبحث عن وظيفة -كتدريب مؤقتا- حتى يتعلم المقاولة من الداخل.. لأنه لايحسن مهارة وفن الاستماع… ضحك الرجل واستهزأ كما كان متوقعا.. وبعد شهور اتصل بنا يبحث عن وظيفة مضطرا.. بعد أن باءت مشاريعه بالفشل وبعد أن ساءت وضعيته المالية..
وغالبا ما ننصح الخريجين الجدد بالوظيفة -عامين أو ثلاثا- بنية التعلم والاستقلال المالي وجمع رأسمال بسيط والتحضير لإنشاء مقاولتهم..
لا نعمم.. هي نصيحة ناسبت ظروفها.. وأهلها..
ثم إنه لا يستقيم ان يكون الجميع ارباب شركات فلا بد للشركات من أجراء.. ولا يعني هذا نقصا من حرية أحد.. فكم من صاحب شركة أصبح عبدا لزبنائه.. وفيهم الأجراء..
وحتى وإن كانت المقاولة خيرا من الإجارة في ظروف واقتصادات معينة، علينا أن نوضح للمقبل على المغامرة -المجاهد، لأن العمل والتكسب من شعب الإيمان- خريطة المعركة كما هي.. وممارسات “العدو” الاقتصادي وشخصيته ومدى احترامه لقواعد الحرب.. لا أن نعده بالانتصار فقط..
علينا أن نخبر من ننصحهم بإنشاء المقاولة بخصوصيات العالم الذي سيضعون رجليهم فيه.. وإلا فقد ندفعهم -بحسن نية- لممارسات سبقهم إليها أغلب من أنشأوا مقاولاتهم في بلاد منهوبة لا عدل فيها..
وقد تكمن هنا طامة تربوية كبرى ..
نحذر.. لا نعمم ولا نكمم أو نلجم.. فهناك استثناءات طيبة.. نرجو من الله -الرزاق- أن يباركها..
ولن تضيع روح المقاولة والاقتحام.. وإن انكمش الاقتصاد.. وإن اضطرك لاستراحة مؤقتة.. فهذه الروح مهمة في ميدان الدعوة إلى الله.. فلا نستعملها فقط في البحث عن الرزق.. وهو مضمون..
فالدعوة أحسن المقاولات.. وأحسن التجارات..
ونشجع على خلق مقاولات مبدعة متأقلمة ومجاوزة للوضع السائد.. لكن عن علم واف بمحيطها..
والحمد لله رب العالمين..
والسلام عليكم ورحمة الله..
….و”بركاته”…
