من حدود المخ أنه كلما وضع أمام خيارين، اختار أحدهما..
قرأنا في كتب التسيير والقيادة سؤالا متكررا: هل يولد القائد قائدا أم يكتسب فن القيادة بالتعلم والخبرة؟
وتأتي إجابات المنظرين مختلفة.. لكنها لا تخرج عن حدي السؤال.. منهم من يرى القيادة وراثة أو وهبا ومنهم من يراها كسبا ومنهم من يجمع بين الاثنين..
ونحن إذ نكتب عن القيادة (وسنستعمل الريادة فقط بعدما نوافيكم بحلقة تعريف “الريادة” والفرق بينها وبين مفهوم “القيادة” المتعارف عليه الآن)، فإنما نكتب عنها لأنها أصل وجودنا.. وإحدى غايتيه.. لا لترف فكري يغوص في كتب التسيير والإدارة لجني اللآلئ وطرح الدقل..
في “فقه الريادة” -بكل حرية وانفتاح واستماع- لا نختار بين فرضيتين فرضتا علينا ولا نتقيد بهما.. بل نرجع إلى الوحي دائما.. لا لتعصب منا.. ولا لتدين.. وإنما لأننا بصدد تعريف أصل القيادة في الإنسان.. فمن البديهي أن نرجع إلى صانع الإنسان من خلال “الدليل” (manual) الذي يعرف بالصنعة وخاصياتها وطريقة التعامل المثلى معها..
ولا يهمنا تكذيب مكذب أو استهزاء مستعل فهذان النوعان لا يصلحان أصلا للقيادة التي تتطلب سعة أفق وانفتاحا على كل الآراء ودراسة لكل الاحتمالات قبل اتخاذ أي قرار..
نقول إذا: “إن الناس خلقوا للريادة”.. هكذا عرف الله سبحانه وتعالى ميزة مخلوقه البشري الذي صنعه من طين..
(وإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (سورة البقرة. آية 30)
إن الملائكة يعرفون أن التمثال الطيني الذي يرونه أمامهم هو مخلوق خلقه الله ككل ما يحيط بهم.. لذلك عرفه الله لهم، لا بكونه عبدا له -فهذا عام وبديهي-، بل ب”خاصية مميزة له وحده”.. أي أنه “خليفة” الله في أرضه.. أي نائب عنه في “قيادتها”..
وهذا أصل.. قبل أن نتحدث عن الريادة عند الولادة البيولوجية أو بعدها..
“خلافة”.. “إمامة”.. “قيادة”.. “ريادة”.. كلها أسماء لمعنى واحد..
خلقنا روادا..
كلنا.. لكن منا من يأبى..
وإيكم إحصائيات من عالم آخر..
في عام 2000 ، نشرت مؤسسة كيلوغ (Kellogg Foundation) تقريراً عن حالة القيادة في جامعات أمريكا الشمالية. تضمن التقرير كلاً من المدارس الحكومية والخاصة، وقامت بتجميعها الدكتورة هيلين وألكسندر أستين (Dr. Helen and Alexander Astin), من جامعة كاليفورنيا (UCLA). استنتاجاتهم كانت مثيرة للاهتمام.
وأول الاستنتاجات أن “كل طالب لديه القدرة على أن يكون قائدا”
فمنا من سمع هذا الوحي: أعني “آية الخلافة”.. ففهمها وسعى لتنزيلها -كل حسب عطاءات الله له-..
ومنا من لا يحب سماع هذا الخبر الذي هو محفور بداخلنا (فطرة) فيرضى بأن يعيش تابعا للناس أو لهواه أو لشهواته أو لأصنام يصنعها أو تصنع له..
وهناك نوع ثالث يسمع نداء الفطرة ويثيره هاجس التطور الدائم اللامحدود في الانسان وحب استطلاعه الفطري لكنه لا يلتفت إلى الوحي فيعتمد على تفكيره فيضل ويضل الناس ويتأله لما يرى في نفسه من قوة دفينة لا يعلم أصلها ولا سرها ولا يعرف كيف يستخرجها ولا فيم يستعملها لإنجاز ما من أجله وجد…
إن كان هذا الصنف الأخير قد علم بهذا الوحي وأصر واستكبر فذاك شأنه.. وإن لم يكن سمع به، فإن من واجبنا إسماعه..
