بسم الله الرحمن الرحيم..
في الحلقة الثالثة وعدنا أن نأتي بأرقام عن أمثل أشكال القيادة كي نقارنها بما استنتجنا من الوحي أولا..
منهجيتنا أن لا نبحث عن الأرقام التي تعضد ما نقول.. ليس هذا صدقا.. إنما نختار أجود الدراسات وأطولها وأذكاها..
تحضرني دراسة Jim Collins التي شملت قرابة 1500 مؤسسة مدة 5 سنين وبمشاركة 20 باحثا (كنا ذكرناها في حلقة “فقه الريادة” في الموسم الأول).. ثم هناك أكبر دراسة حول القيادة والتي دامت أكثر من 35 سنة وشملت ملايين الحوارات والدراسات والتي جمعها الباحثان James Kouzes و Barry Posner كتابهما القيم “تحدي القيادة”..
خلاصة الدراسة في شقها الأول أن آلاف القادة والمديرين أكدوا -أي أجمعوا إحصائيا- على أن أمثل أشكال القيادة (التي اعطت أكلها من خلال تجربتهم) لا تخرج عن 5 خصال أو عادات (practices) للقائد:
1• “أنر الطريق” -القدوة والقيم- (Model the Way)
2• “ألهم رؤية مشتركة” (Inspire a Shared Vision)
3• “أعد النظر في طريقة العمل” (Challenge the Process)
4• “شجع من معك على اتخاذ القرار” (Enable Others to Act)
5• “شجع العلاقة القلبية” (Encourage the Heart) وفيها التشجيع ومكافئة عمل الفريق وخلق روح “الجماعة” (Create a Spirit of Community)..
والشق الثاني من الدراسة يتعلق بما ينتظره أعضاء فريق العمل من القائد..
إن أهم 7 خصال ينتظرها الناس من قادتهم حسب الدراسة التي شملت 22 خصلة يختار كل محاور أهم 7 منها هي كما يلي :
1• خصلة الصدق (Honest): 89%
2• الرؤية المستتقبلية (Forward-looking): 71%
3• إتقان العمل (Competent):69%
4• الإلهام (Inspiring):69%
5• الذكاء (Intelligent): 45%
6• الانفتاح (Broad Minded) : 38%
7• العدل (Fair Minded): 37%
وكما ترون في الجدول فإن الأرقام:
– لا تتغير كثيرا مع مرور السنين (من 1987 إلى 2012)..
– وأنها توافق رأي القادة في خصال القيادة..
– أضف إلى ذلك أن النتائج لم تؤثر فيها لا جنسية المستجوب ولا بلده
– وأنها عامة.. لا فرق فيها بين شركة ربحية وتعاونية أوجمعية لا ربحية وجماعة..
فالقدوة تقابل الصدق في الرتبة الأولى والرؤية المستقبلية في الرتبة الثانية في الدراستين.. وتطوير العمل والكفاءة التي تمكن من إعادة النظر في طريقة العمل لتطويرها في المرتبة الثالثة في الدراستين كذلك.. وكما يقول الباحثان فإن الصدق مرادف للثقة وهو ما يبعث القائد على تشجيع أعضاء فريقه على المبادرة واتخاذ القرار..
وتشجيع المبادرة والتركيز على العلاقات القلبية تقابل الإلهام والإيجابية المنتظرة من القائد..
الغريب أنه لا مكان لسلوكات “اليد الحديدية في قفاز الحرير” التي تنبئ عن توجيه القائد المتسلط (كثيرا أو قليلا..) أو توبيخه أو عقابه..
والعجيب كذلك أن هذه النتائج توافق -إلى حد كبير- القيادة كما أخبر عنها الوحي..
1. “فبما رحمة من الله لنت لهم” التفاف الناس “جماعة” حول رسول الله ﷺ الناتج عن الرحمة القلبية يقابله تشجيع العلاقة القلبية (Encourage the Heart) التي ضمنتها الدراسة خلق روح “الجماعة”! (Create a Spirit of Community)..
2. “فاعف عنهم” يقابلها تشجيع الناس على المبادرة واتخاذ القرار دون التردد الناتج عن الخوف من الخطإ..
3. “وشاورهم في الأمر” يقابلها الانفتاح وسعة الأفق
4. “فإذا عزمت” يقابلها عنصر الكفاءة.. لأن من سمات الكفاءة الثقة التي تفضي إلى اتخاذ القرار..
ومع هذه التشابهات- وغيرها كثير- فإن ما لم يصل إليه المنظرون والقادة واتباعهم في هذه الدراسة وغيرها هو ما قد نفرد له العناوين التالية في كتابنا “ما فوق التسيير والقيادة: المنهاج النبوي “Beyond Management & Leadership: The Prophetic Method”:
1- ما فوق الرفق “Beyond Kindness”:
الرحمة من الله هبة من لدن الله ﷻ وهي فوق الحب الأرضي “المقطوع عن السماء” وفوق “تشجيع العلاقات القلبية” حيث الرحمة عندهم لا تعدو أن تكون عاطفة أشبه ما تكون بالشفقة والحنو “الأرضيين” ولا علاقة لها بالرحمة كما يعرفها الوحي.. وقد نفرد لها حلقة “الرحمة القلبية والحكمة العقلية” إن شاء الله..
2- ما فوق العفو “Beyond Forgiveness” العفو عن الأخطاء.. نجده في كتب التسيير والقيادة “Forgiveness”.. لكن الوحي لا يقف بالقائد عند العفو “الأرضي”.. فإن ما يجب أن يربط “الرائد” بأعضاء فريقه “رابطة سماوية” لا علاقة أرضية فقط.. هي درجة أعلى بكثير من العفو عن الأخطاء، أن تطلب في الليل أن يغفر الله لأعضاء فريقك دون علمهم.. وهذه من خصائص “الريادة” التي ننشدها.. والتي خطت خطين من أثر الدموع في وجه عمر بن الخطاب الرحيم بخلق الله..
3- ما فوق التشاور “Beyond Concertation”
“الشورى” بالمفهوم القرآني غير التشاور الديموقراطي “الأرضي” فقط.. فلها مقدمات وسياق “سماويين” قد نفرد لها مقالا في إطار اتخاذ القرار.. إن شاء الله..
4- ما فوق اتخاذ القرار Beyond Decision” “Making Process..
“فإذا عزمت.. فتوكل على الله.” طلب مصاحبة الله لك قبل وأثناء وبعد اتخاذ القرار شيء لن تقرأه في كتب اتخاذ القرار..
لا قبل بهذا المنطق لمن يعتمد -فقط- على آليات تشخيص الواقع وتحليل الإكراهات ونقاط القوة والضعف والتفكير في الفرص ودراسة السيناريوهات وتقييم النتائج المحتملة لكل سيناريو قبل اتخاذ القرار..
يعتمدون على عقل يزن 1.4 كيلوغرام.. ليقرروا.. ولا علم لهم إن كان التفكير من داخله أصلا أو من خارجه..
ونحن لا نستغني عن أدوات التحليل والتشخيص أبدا.. لكننا نتوكل -أولا وأخيرا- على توفيق الله وإلهامه.. لا على انفسنا.. ولا على “نوروناتنا”..
وهذا هو التواضع (Humility) المطلوب من القائد الحق (ارجع إلى دراسة Jim Collins التي لخصها في Good to Great والتي عرضناها في الموسم الأول من “فقه الريادة” على قناة الشاهد التلفزية Chahed.tv)..
