لن نعيد ما شغل مايكل هارت (Michael Hart) سنوات طويلة لتصنيف من كان أكثرُ البشر تأثيرا ونفعا للخلق فلم ينازع إمامَ الرسل عليه الصلاة والسلام منازع في الصدارة.
(كتاب “المائة : تصنيف لأكثر الشخصيات تأثيرا في التاريخ” / The 100 : A Ranking of the Most Influential Persons in History)، لكننا نبني على ما نهجه لنكف عن التقييم الخارق للمعايير واتخاذ نماذج سرعان ما يطفو على سطح الماء ما تخفيه سيرتهم و”إنجازاتهم” وكيف أنجزوها.
الإغتناء والمنصب والقوة وإن كانت تغري ليست مؤشرات على النجاح في القيادة أو الريادة في مجال ما :
– جونسون وجونسون (Johnson & Johnson) الشركة “الرائدة” في صناعة الأدوية ومواد رعاية الأطفال اتبعت سياسة تجارية مدة 20 سنة بوصف أدوية تتضمن جرعات مخدرة قصد دفع المرضى نحو حالة من الإدمان تضمن رقم معاملات وأرباحا طائلة.
الجريمة التي نفذتها الشركة بشكل مخطط ودقيق أدت إلى ما أطلق عليه “وباء الأفيون” حيث أدت إلى وفاة 6000 شخص منذ عام 2000 بولاية أوكلاهوما وحدها وبلغت سنة 2012 وصفات أوبيويد 250 مليون وصفة بالولايات المتحدة كلها.
طالبت الدولة بتعويض وغرامة تصل قيمتهما 17 مليار دولار، سوف تحاول الشركة العملاقة المساومةَ لتخفيضه لكن دناءة الخطة تكمن في علمها مسبقا بضرورة انكشاف أمرها يوما فأسرعت لجني مئات الملايير عبر عقود، جندت لها عملاء وشركاء متواطئين كمكتب الدراسات ماكينزي (Mckinsey)، وما المبلغ الذي تلهث وراءه العدالة إلا قطرة من بحر أُعِدَّت ميزانيتُه خلال سنوات طوال ونصح مراقبُ الحسابات الشهير و”الرائد” هو أيضا بخصم الأموال الكافية تحسبا ليوم الفضيحة.
يٌغلَق ملف الكارثة بتسوية مالية ويمضي الوحش لفريسة أخرى سوف تأخد ثلاثة عقود أخرى لتزكم الأنوفَ رائحةُ نتانتِها.
ميزانه مختل من صنف جونسون وجونسون ضمن من خدم الإنسانية ويعمل بمقتدى مجموعة قيم عالية كما ينص على ذلك نظام قيَمها المُعلَن للمستثمرين وسوق الأموال (جونسون وجونسون إحدى مكونات مؤشر داو جونز الصناعي DOW JONES، كما أنها إحدى شركات لائحة فورتشن FORTUNE 500).
– تعمل سينجنتا (Syngenta) السويسرسية الأصل لإمداد الفلاحين عبر العالم بمواد كيميائية وبذور ترفع منتوجية الأراضي وجودتها. مؤسسة تبتكر وتنتج وتبيع من خلال سياسة تحذر العالم من كوارث سوف تنتج عن قلة الإنتاج مقابل ٱرتفاع مهول لساكنة الأرض : 9,1 مليار نسمة بحلول 2050. الحل يتجلى حسب استراتيجية الشركة في استعمال مواد تنتجها مختبراتها من بذور ومبيذات وخلطات تقوي التربة وترفع مردوديتها كي تنتج نفسُ المساحات المزروعة إنتاجا كافيا لتغطية ما يلزم لتغدية البشرية.
يتبادر إلى الأذهان عبر هذا النداء التحذيري كأن أراضي العالم الخصبة زرعت بأكملها وأن جوعى العالم وأطفال يموتون لنذرة الطعام، والحقيقة جلية صارخة تؤكد تَستُّرَ وحش الإغتناء وراء قناع إنقاذ البشرية ونظام القيم الزائف. لا مبرر لموت واحد من أهل الأرض جوعا ونحن نعلم ما تجرفه قمامات ما فضَل من موائد المتخومين ومن صمَّت أذانهم عن سماع صراخ الجوعى. ولا يخفى على خبراء الأسواق ما تبتلعه البحار من كميات حبوب وأغدية تخلَّص منها الممسكون بخيوط اللعبة كي لا تهوي الأسعار.
مختل ميزانه من صدَّق الشعارات والتحذيرات لخدمة مستقبل الإنسان فالفزاعةُ خدعةٌ هدفها الربح السريع. لن نخوض فيما يترتب عن استعمال مواد لها أثر سلبي على التربة على المدى البعيد أو تبعات تغيير جينات البذور. ولنا عودة مع سينجنتا في إحدى حلقاتنا القادمة لنكشف حقيقة التزامها بالقيم داخل سوق الأموال.
– رأينا كيف تشارك مكاتب الدراسات والإستشارات أمثال ماكنزي (Mckinsey) ومجموعة بوسطون للإستشارة (Boston Consulting Group) وغيرهما في هندسة خطة بمثابة شبكة واسعة الإمتداد تُوقِع أكبر عدد من الأسماك في قبضة الصياد، ونرى الآن دورها في رفع السقف عاليا حين تؤسس لزبنائها قواعدَ التواصل مع سوق الأموال ولجانِ البورصة المتخصصة. الهدف رفعُ قيمة السَّهم وجلبُ أكبر عدد من المستثمرين للطلب عبر صياغة نظام قيم صارم في حُلَّة جذابة تُراقب مدى التزام الشركة بها مكاتبُ تدقيقٍ عالمية وقسمُ مراقبة داخلي مُهمتُه رصد كل التجاوزات واتخاذ تدابير زجرية في حق من كان وراءها.
إيلون موسك (ELON MUSK) صاحب شركة تيسلا (TESLA) التي اقتحمت مجال الطاقات المتجددة وابتكرت سيارات وشاحنات تعتمد بشكل كلي ومستقل على الطاقة الشمسية والتي بلغ رقم معاملاتها السنوي 25 مليار دولار، أصبح يوما على خبرِ انخفاص سعر سهم تيسلا بمقدار 9٪ غداة انتشار فيديو حوار إيلون مع أحد منشطي برنامج راديو، حيث دخن إيلون على الهواء مباشرة سيجارة ماريخوانا.
حدث عابر ؟ ردة فعل متهورة أو مفرطة من طرف المستثمرين ؟ ربما….
لكن ما أكده المحللون بعد هذا الحدث أن إيلون أخلف أكثر مما وعد علما أن ارتفاع قيمة السهم تُبنى على وعود ومشاريع يزيدُ الوفاءُ بها المستثمرين ثقةً واطمئنانا على أموالهم.
كانت إشارة جاك ما (Jack Ma) مالك مؤسسة علي بابا، في حوار له مع إلون موسك عن الذكاء الإصطناعي وانعكاسه على حياة البشر مستقبلا، تقويما قويا وحكيما حين قلَّل من أهمية مشروع إيلون السفرَ لكوكب المريخ في أفق 2024 وتهييء ظروف الإقامة هناك. لفت جاك انتباه الجميع إلى أن البشرية لديها من المشاكل والأولويات ما يغنيها عن رحلة خارج مدار الأرض.
ميزان مختل نبَّه إليه جاك وتصويبٌ لأحلام، و إن تحققت، تكون وصمةَ عارٍ في جبين الإنسانية وأضلعُ أخيكَ الإنسان تشتبِك جوعا.
– بيرنارد مادوف (Bernard Madoff) رجل أعمال بأسواق المال الأمريكية اشتهر بحنكته في استثمار أموال زبنائه وكسب ثقة المستثمرين وجميع المتدخلين والمهتمين بالسوق فكان يحاضر ويُنظِّر لأخلاقيات المعاملات وشفافياتها كما أثَّر في شريحة مهمة من المجتمع الأمريكي عبر عمله التطوعي من خلال جمعيات العمل الخيري التي تبرع من أمواله لدعم أنشطتها.
انصبَّت جهود مادوف نحو كبار رجال الأعمال وأصحاب المؤسسات وكان يبتعد عن مظاهر البذخ، حيث كانت ساعته وملابسه من الماركات العادية، وقد كان المطعم الذي يتناول فيه وجبة العشاء مع زوجته من المطاعم المتوسطة. وعبر أسلوب الأخلاق والإقناع، ومنهجية الابتعاد عن حياة الترف، جعل المتابعين لحياته يرتكزون على ما يستشعرون من أمان وثقة ليلج بهم إلى شبكة الأعمال.
كان مادوف وراء الزلزال المهول الذي ضرب سوق الأموال سنة 2008 حيث وصف أحد خبراء عالم الأموال أن ما حدث هو بمثابة 11 شتنبر للبورصات الأمريكية. سقط بنك ليمان براذرز (Lehman Brothers) في ذهول لأكبر الخبراء وحيرتهم لعجزهم فك خيوط ما حصل. أسرَّ المحتال لابنه ذات ليلة كيف أنه كان وراء ما أصاب الأسواق فأخبر الإبنُ المعنيين لتنجلي الغابة المختفية وراء الرجل العجوز.
مختل ميزانه من واكب سيرة محتال حين اكتفى بأرقام خلف الشاشات ومظاهر لا تدع للمتتبع شكا في ورع الرجل وسلوكه ونجاعته في تسيير الصفقات.
أردنا الوقوق عند ما يبهر الناس فلا يرون نموذجا غيره ونكشف ما تخفيه الحقائق.
نرى لاحقا إن شاء الله بعد كشف تفاصيل ما يخفيه هذا الفشل الذريع في إرساء منظومة القيم وزيف الريادة، من أين للإنسانية وكيف أن تخرج من نفق الخداع إلى متسع الشفافية والقيم.