كوتونو – جمهورية بنين.. الحادية عشرة صباحا..
انتهى الاجتماع الذي دام ساعة واحدة بالضبط.. فرافقني الأسقف “الآب” إلى حديقة الكنيسة الكاثوليكية..
شاب يافع في سترة ناصعة البياض.. يسلم عليه بإجلال رهبان وراهبات الكنيسة ونحن في طريقنا نحو البوابة الحديدية..
كان اللقاء قويا.. لم يجد “الآب” جوابا لاختلاف كيفية الصلاة عما هو مكتوب في كتابه المقدس (فقد أريته الفيلم الذي انتجناه حول صلاة كل الأنبياء The Last Prayer).. والأمر في الأمر -الذي فاجأه ولم يستسغه- أنه لم يجد جوابا لاختلاف نص الانجيل حول التثليت -وهو أس اعتقاده- مع الأصل الإغريقي المعتمد لطباعته..(Codex Vaticanus) الذي اكتشفه لأول مرة حين أريته نسخة منه على شاشة حاسوبي..
أخذت العزة بالاثم أسقفنا الشاب.. فقال لي وهو يودعني بأسلوب متغطرس.. نعم فوجئت بعجرفته.. وإن كان الظرف يجيزها : فلم يكن بيننا ثالث ليسمع.. وكنت مجرد مسافر سيختفي من حياته -إلى غير رجعة- بعد دقائق..
قال لي الشاب المتقد الغضبان.. المنهزم في نظره.. : “ثم ماذا ؟.. ماذا ربحت ؟.. لا شيء.. لقد أضعت وقتك.. لن يتغير شيء.. سيدي..!”
ابتسمت بلا أدنى تكلف وقلت له.. “أيها “الآب”.. إن الله يأجرنا مسبقا.. عن نيتنا.. لقد أخذت أجري البارحة عندما اتصلت بالكنيسة لأخذ موعد معك.. وربما زاد الأجر حين أسمعتك رسالة الإسلام.. هذا ما ربحت.. أما ما ستفعله أنت، فلا دخل لي فيه..”..
صمم “رجل الدين” على تحديه الواضح.. وقال بحزم وبتكبر وتهكم متأدب:
“ربما.. لكن كن متأكدا أنني لن أفكر فيما قلته لي ولو لثانية.. ولن يتغير شيء أبدا”..
هنا أجبت أسقفنا بما هو أهله.. وبابتسامة تنم عن سعادة فعلية.. سعادة من بذل قصارى جهده واقترب من ختم “غزوته” لنشر دين الله على أحسن وجه.. إذ لم يكن عليه “إلا البلاغ”..
“أيها الآب.. أنت شاب يافع.. وأمامك سنين كثيرة.. انصحك أن تستغلها جيدا لتحضر جوابك حينما تقف أمام الله.. فيسألك الله لماذا لم تصدق رسوله الذي بعثه.. (سيدنا) محمد -صلى الله عليه وسلم- ؟ لماذا لم تهتم برسالة الله؟ لماذا وقفت عند رسالة سيدنا عيسى عليه السلام..؟ مع العلم أن المعلومات عن رسالة سيدنا عيسى أقدم ب 700 سنة عما نعرفه عن رسالة سيدنا محمد.. وبالتالي فما وصلكم منها أقل دقة مما وصلنا من رسالة سيدنا محمد.. فالتحريف -كما هو معروف- يكبر كلما طالت المدة..”..
ابتسم الاسقف -وهو يخفي تهممه- وقال “لا عليك”..
فقلت له..
“ستكون مهمتك صعبة جدا.. جدا.. فلا يمكنك أن تحتج -بعد الآن- بأنك لا تعرف!
كان جوابك سيكون أسهل.. لكن الأمور تعقدت”..
فقال.. “لا أفهم.. كيف؟”..
هنا قلت له.. “لأن الله تعالى قد يقول لك: لقد أخبرك مصطفى حين مر من هنا..
إلى اللقاء أيها الآب”..
تسمر الرجل مكانه ونظر إلي مليا.. ولم يتلفظ بكلمة.. بل ولم يرد حتى السلام..
فاستدرت في أدب وأكملت طريقي..
لا علم لي بما فعل الرجل بعدها.. لكن كان علي أن أترك له شيئا يفكر فيه.. لعله يرجع إلى نفسه.. وإلى الله..
(وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
الزحرف 28
لا انتصارا لنفسي.. ولكن.. لكي يرجع إلى الله..
كانت هذه الحلقة ليعلم من يتهيأ لدعوة غير المسلمين أنه قد يصادف عقليات وشخصيات مختلفة.. وأطماعا وحرصا على مال -ترسله الكنائس الأم إلى بناتها- أو جاه أكثر من الحرص على تحري الحقيقة.. وحتى لا يفاجئ من تعامل محاور قد يميل الى الرفض المبدئي المتشدد أو إلى العنف أحيانا.. ولكل مقال مقام.. ولكل ظرف تعامل وجواب.. كما سنرى..
والله يهدي من يشاء..
اللهم اغفر لي ما اضطررت (في تقديري) إليه من تجرؤ على الغيب..
تحذير: لا يعتمد الأسلوب الذي ورد في النص في ظروف أخرى.. فالرجل رجل دين مختص ووقت اللقاء محدود وهو متشدد جدا حد الغلو.. لذا كان النقاش قاصدا وبوتيرة سريعة.. وإلا -ففي ظروف أخرى- يكون البدء بمسألة التثليت مستفزا في الغالب..
وانت من تقيم الظروف والسياق..
والله المستعان..
