بعد أربعين دقيقة من التبشير “العاطفي” غير المقنع.. بدأ دوري في الكلام.. فقد استفزت عبارة “لا يوجد في الإنجيل” أسقفنا المتشدد المنغلق..
بدأت باسم “الله”.. وأخبرت اسقفنا -الذي لا علم له بلغات العهدين ككثير من الرهبان- أن اسم الجلالة هو “الله” فكلمة “Dieu” لا يمكن أن تكون اسما لله تعالى..
وإلا فكيف لا يستعملها الانجليز ويعوضونها باسم ذي جذور فارسية “God”.. أو “خده” (Khoda) كما يقول الإيرانيون حتى الآن.. وحتى المسلمون منهم…
ثم إن اللغتين (الفرنسية والانجليزية) حديثتان.. لم تكونا موجودتين زمن الأنبياء..
وأريته أن اسم الرب في نسخة الإنجيل الأرامية.. وفي نسخة التوراة العبرية.. هو “الله” [אלה =ܐܠܗ = A-L-H]”
كان كلامي موثقا بصور من القواميس والموسوعات الدينية النصرانية واليهودية.. ولم أكن ألعب على وتر نفسي عاطفي لأستميله كما فعل.. فبضاعتنا لا تناقض فيها ولا نقص لنكمله أو لنغطيه بعاطفة متكلفة..
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء – 82)
وإن لخطاب العاطفة دورا أكبر من خطاب العقل والمنطق.. لكن.. في سياقات مختلفة.. لا مع الرهبان والدارسين وأصحاب الاختصاص..
ثم تحدثت عن الصلاة وتركت له قرصا مدمجا للفيلم الذي أنجز سنة ٢٠١٣ حول صلاة كل الأنبياء (ارجع إلى حلقة سابقة).. فلم يكن لي وقت طويل لعرضه..
وبينت أني أريد أن أظهر له بأن “الدين الأصلي واحد”.. وأنه وقع تحريف.. ولست أبغي من خلال المقارنة، العثور على تشابهات بين “أديان” مختلفة (syncrétisme)
فإنما هو دين واحد..
{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ..} (آل عمران – 19)
هذه طريقتي في إظهار أن الإسلام هو الدين الأصلي والوحيد.. وأن سيدنا محمدا ليس بدعا من الرسل.. صلى الله عليهم..
{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ}.. (الأحقاف 9)
وفي آخر الأمر أتينا إلى رأس المسألة التي ركز عليها راهبنا : أنه لا نجاة إلا عبر عبادة “ابن الإله” في زعمهم..
وخلافا لما اعتاده النصارى من رفض المحاور المسلم لفرية التثليث ودفعها بشبه “حجج” عقدية إيمانية يصعب -نفسيا- ان يقتنع بها محاوره.. فلم أرفض ايمان الأسقف ولم أنتقده..
لكنني قلت له أن الله تعالى في القرآن يعتبر ذلك سبة مباشرة له.. تتفطر منها السماوات..
إخبار فقط..
والمسألة الثانية أن لا مشكلة لي مع اعتقاده.. فهو حر في أن يعتقد ما يشاء.. لكن.. المشكلة عندي أنني لا أجد التثليث في الإنجيل..
ابتسم الأسقف ابتسامة بداهة وثقة، وأخد الإنجيل وبدأ يبحث..
لم يعرف أو ربما لم يتذكر مكانا فيه “الأب والابن وروح القدس”.. أو ربما ظن أنها موجودة كثيرا في الكتاب.. لكثرة ما يرددونها في كلامهم.. لكنه اكتشف أنه لا يمكن العثور عليها بسهولة..
بدأ التوتر يظهر أثناء البحث.. فكان علي أن أخرجه من ورطته.. لأن الوقت يجري.. ضدي..
– قلت له: “اذهب إلى النص الخامس من الرسالة الأولى للقديس يوحنا.. 5: 7-8 “
– قرأ الأسقف : “فإن الذين يشهدون [في السماء هم ثلاثة الأب والكلمة والروح القدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد والذين يشهدون في الأرض] هم ثلاثة الروح والماء والدم وهؤلاء الثلاثة هم في الواحد”..
(هام جدا: الجملة الطويلة التي وضعتها بين معقوفتين [ ] غير موجودة في المخطوطات الأصلية !)
عندما انتهى من القراءة، بادر قائلا.. : ها هي !..
-فأجبت على التو : لكنها غير موجودة في المخطوطتين الأصليتين (Codex Vaticanus و Codex Sinaitucus).. وأريته نسخة منهما.. وقرأت له النص متهجيا الحروف الإغريقية.. ومترجما النص الأصلي الذي لا يحتوي على جملة التثليث..!!! (انظر الصورة : ما كتب بالأحمر في نسخة سيناء*)
نقرأ في النص الأصلي :
“فإن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة الروح والماء والدم”
وجميل -وسهل- ان تحفظوها بالإغريقية.. فهي مركزية…
[ὅτι τρεῖς εἰσιν οἱ μαρτυροῦντες τὸ πνεῦμα καὶ τὸ ὕδωρ καὶ τὸ αἷμα..]*
وتنطق :
(óti treís eisin oi martyroúntes tó pnevma kaí tó ýdor kaí tó aíma..
أوتي تريس إيسن أوي مارتيرونتيس تو بنيفما كي تو إذور كي تو آيما)*
أما صيغ “الأب والابن وروح القدس” و “في السماء” و”في الأرض”.. فقد أضيفت إلى بعض النسخ المطبوعة سنة 1522 بعد الميلاد..!!!
أضافها أسقف نصراني هولندي يدعى “إيراسموس” (Erasmus)
وقد حذفت في أكثر النسخ الحالية… (أو تركت أحيانا.. وتم الإشارة في أسفل الصفحة بخط صغير جدا.. إلى أنها غير موجودة في النص الأصلي.!!!. ومن يقرأ أسفل الصفحة ؟..)
ويعرف علماء النصارى هذا جيدا.. بل ويسمون الإضافة “johannine comma” (الزيادة اليوحنية)…
سكت الأسقف ولم يعقب.. فالصدمة حين تمس الاعتقاد تكون قوية جدا..
صعب أن تعرف في خلال نصف ساعة ١- أن “الله” ليس اسم إله العرب.. وإنما هو اسم “الرب” الحقيقي.. رب المسيح.. ٢- وأنه عليه أن يخلع حذاءه قبل دخول الكنيسة.. وأن يتوضأ قبل الصلاة.. وأن يسجد وأن يركع.. كالمسلمين.. ٣- وأن لا تثليث في “دينه الكنسي” ولا في إنجيله..
٤- وأن المسلمين أكثر تمسكا بتعاليم المسيح..وطريقة كلامه وصفة صلاته.. وتوحيده..
لذلك قال حين خرجنا ما قال..
لما رأيت توقفه.. وشروده.. وضعت نفسي مكانه.. فأشفقت من حاله.. فلا فتنة أشد من الفتنة في الدين.. وقد جربتها فيما مضى..
فقلت له لأذكره بربط الاتصال مع الله مباشرة..
– “سيدي.. إن عندناصلاة تدعى الاستخارة.. نستخير الله مباشرة متى ما فشلنا في اتخاذ قرار.. أو معرفة حقيقة أمر ما… في صلاتك القادمة.. إسأل الرب مباشرة إن كان ما قلته لك صحيحا.. وابحث.. وادعه أن يريك الصواب..
طابت ليلتك..
[ملحوظة : لا نستعمل مع من ندعوهم كلمة “الله” حتى نخاطبهم بما يفقهون.. هذا ما نصحنا به الإمام المجدد.. لكن الأمر مختلف هنا.. فالذي ندعوه من العلماء لا من العامة.. لا أستعمل معه كلمة الله في الكلام معه.. إلا عندما أخوض في مسألة التعريف باسم “الله”.. ]
_______________
* في نسخة سيناء تكتب النفخة أو الروح πνεῦμα” (pnevma)” بطريقة مختصرة (πνα) أو بالحروف الكبيرة (ΠΝA) كما في المخطوطة.
* شرح الكلمات:
. ثلاثة : “تريس”
(treís) τρεῖς
. شهود : “مارتيرونتيس” μαρτυροῦντες
(martyroúntes)
. نفخة الروح: “بنوما”
πνεῦμα (pnevma)
. الماء :
ὕδωρ (ýdor)
. الدم : “آيما”
αἷμα (aíma)
