بسم الله الرحمن الرحيم..
في هذه الحلقة سنتعرف على أمثل أشكال القيادة وأنجعها من أعالي الوحي ثم نعضدها بالأرقام والدراسات لا العكس..
إن منهجيتنا في البحث مختلفة عما يقوم به أغلب المنظرين في بلداننا.. فنحن نبدأ بالوحي أولا ثم بعد ذلك فقط نستأنس بما وصلت إليه الابحاث والدراسات الإحصائية..
وإن من كتاب ‘الجنوب’ من يأخذ نتائج الابحاث ‘الشمالية’ كمرجع/سقف أولا ثم يحاول إلصاق نماذج الإسلام بها.. وبهذا يفوتون على أنفسهم وعلى الناس فرصة الاجتهاد لإيجاد ما لم يخطر للغربيين الشماليين ببال..
من جانب آخر -لا يقل خطورة-، نجد من مفكرينا من يعتمد على تفكيره أو شخصيته فيميل إلى التسويق لنوع معين من القيادة لأنه يراه موافقا إما لشخصيته هو أو لشخصية من غلبه وتفوق عليه وبهره..
قد ينتج ذلك إما عن أنانية وثقة زائدة في استنتاج ذاتي من جهة أو نحلة مغلوب لغالب.. من جهة أخرى..
والأمران قادحان في القيادة (الأنا والتبعية)..
ومنا من ييأس من واقع المسلمين وضعفهم الحالي فيعزو ضعفهم إلى “طيبتهم” أولا فيدعو -كردة فعل لا كفعل مدروس بان طويل الأمد- إلى نوع من الاستبداد كعلاج.. ناسيا أن استبداد “قادة” المسلمين (وغيرهم) -بمختلف درجاته وأشكاله- هو أصل الداء.. فلا يمكن -بالتالي- ولا يعقل أن يكون هو الدواء..
ورد الفعل سلوك بشري شبه عام.. يسقط في سهولته وتسرعه كبار المفكرين والمؤرخين لانهيار الحضارات إذ يدعون إلى “الاستبداد القيادي” كحل أمام شيخوخة الغرب.. كما سقط فيه مؤخرا (2019) بروفيسور التاريخ المبرز “دايفيد انجلز” (David Engels) آخر من كتب عن انهيار الحضارة الغربية (Renovatio Europae – 2019).. وسنعود لهذا في قريب..
نقرأ من الوحي مباشرة أن “الرحمة من الله” هي أهم عنصر في القيادة.. وصف بها الله تعالى أكبر قائد في التاريخ.. قال الله تعالى موضحا سبب تأثير رسوله ﷺ في الناس والتفافهم حوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمران، آية 159)..
أول عنصر في القيادة “الرحمة من الله” أولا.. -وهي لا تعني الرخاوة أو الطيبة أبدا-.. وهي من الله “ذي الرحمة”.. و”ذي الجلال” كذلك سبحانه.. ثم يأتي ذكر الحكمة في الآية كما يلي:
١- تمكين الناس من أخذ القرار بتقبل الاخطاء والعفو عنها.. وبهذا يصنع القائد قادة من حوله.. يريدهم أحسن منه كما يريد الأب أولاده.. (فَاعْفُ عَنْهُمْ)..
٢- وعدم الاستبداد بالرأي بالمشاورة في مهمات الأمور (..وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)..
٣- وقدرة ودربة على اتخاذ القرار بعد العزم..
(..فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله)..
ولنا مع العزم والهمة والإرادة ما لم -ولن- يخطر على بال أحد من منظري الغرب لأنه يستلزم معرفة بالله وعملا خاصا بالليل والنهار لا قبل لهم به.. والله يهدي إليه من يشاء..
هذه هي “الريادة” كما فهمناها من الوحي ونعرفها ونفصل فيها أكثر مستقبلا..
ثم نرجع إلى منظري الغرب الذين (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ).. ما وصلوا إليه ليس خطأ كلية وليس صحيحا كليا.. إنما هو جانب سطحي ظاهر من الحقيقة، يتفاوت عمق قشرته..
هناك كلمات لا تستطيع اللغات الأخرى إيفائها معناها الكامل.. ومنها كلمة “الرحمة” .. فللغة العربية خصائص تمكنها من استيعاب إحساسات القلب ووحي السماء..
يقترب معنى “الرحمة” القلبية من كلمات “محبة” أو “حب” (love) أو “قلب” (heart) في اللغات الأوروبية..
وما لا يدرك كله لا يترك جله..
قال صاحبا أكبر دراسة حول القيادة والتي دامت أكثر من 35 سنة وشملت ملايين الحوارات والدراسات (750.000 استبيان سنويا منذ 1983)..
قال James Kouzes و Barry Posner في الصفحة الأخيرة من كتابهما القيم “تحدي القيادة” الطبعة الخامسة 2012 (The Leadership Challenge) :
“بعد أكثر من ثلاثين سنة من البحث شملت آلاف الحوارات ودراسات الواقع، لا يزال في خلدنا عدد المرات التي استعمل فيها قادة كثر -بلا تحرج- كلمة “محبة” للتعبير عن المحفز الأول لقيادتهم.. ومن بين الأشياء التي تحافظ على تأثير القائد برغم مرور الزمن، فإن المحبة تعتبر أدومها”
“..after researching leadership for over thirty years, through thousands of interviews and case analyses, we are constantly reminded of how many leaders use the word love freely when talking about their own motivations to lead. Of all the things that sustain a leader over time, love is the most lasting.”
ويضيف الباحثان: “إنه من الصعب تخيل عمل القائد اليومي الدؤوب لانجاز أشياء رائعة دون أن يكون
للقلب دور فيها..”
“It’s hard to imagine leaders getting up day after day, putting in the long hours and hard work it takes to get extraordinary things done, without having their hearts in it.”
ثم يضيفان: “إن أبر أسرار القيادة الناجحة وأكثرها حراسة هو ‘الحب’.. حب القيادة وحب فريق العمل وحب إنجاز المؤسسة (منتوجا كان أو خدمة) وحب من سيشرفون المؤسسه باستعمال ما انتجته لهم..”
ويختم الباحثان دراستهما ‘الجيلية’ الموضوعية المصدر لا المعتمدة على الظن وما تهوى الأنفس.. بجملة جامعة.. قائلين: “ليست القيادة مسألة ذكاء (عقل).. إنما القيادة قلبية”
“Leadership is not an affair of the head. Leadership is an affair of the heart”.
وصلى الله وسلم على “الرحمة المهداة” أنجح البشر.. وأحرصهم علينا.. ومن تبعه بالرحمة المهداة إلى يوم الدين..
