بهذه الحلقة نقدم لتعريف جديد ل”الريادة” مختلف عن تعريف “القيادة” الكلاسيكي.. وحتى المفاهيم التي سنستعملها تختلف كثيرا عن المفاهيم المستعملة في التعريف الكلاسيكي للقيادة ك”التأثير” (influence) و”الهدف” (goals-objectives) وإن كان بعضها يحمل نفس الاسم إلا أن مضمونها مختلف جذريا عما سنورده بإذن الله..
ثم بحلقة “الكذب الحق” (‘The ‘True Lie) وحلقة عن “أبعاد الإنسان المنسية” (Man’s Forgotten Dimensions) وحلقة عن “الاهداف المنجمعة” (x-smarte objectives) وحلقة عن “أصدق الصدق” (The Genuine Honesty) سنكون قد استكملنا مقدمات تعريف الريادة إن شاء الله.. لنبدأ بعدها في تفاصيل التسيير والريادة وكيفية تنزيلهما على أرض الواقع..
نبتدأ الكتابة باسم الله الرحمن الرحيم لأن الموضوع شائك وخطير.. فنستمطر بالبسملة والاستخارة توفيق الله وإلهامه.. فما يخيفنا هو أن يعجب قارئ مسؤول عن مجموعة من الناس بأسلوب معين للقيادة -ظنا منه أنه السمة الغالبة الأمثل في القيادة- فيختاره.. ويتبعه حرفيا ودائما وقد ينفض الناس من حوله تدريجيا وقد يبقى وحيدا.. فكم حكاما أداروا بلدانهم بيد من حديد في قفازات من حرير بل حققوا بعض الانجازات وهتف لهم “أكثر الناس”.. صدقا وضعفا وإعجابا وعبودية .. ثم وجدوا أنفسهم وحيدين قد نزع عنهم أقرب الجنود منهم زيهم العسكري وفروا منهم وتركوهم في مواجهة مصيرهم وحدهم..
لم تكف قيادتهم الحازمة لبعث “الحب الذي يتفوق على الخوف من الموت والفداء”..
ولا يغرنا ولاييئسنا اتباع “أكثر الناس” وانبهارهم بالزعامات وأصحاب المال مهما قل أو انعدم صدقهم أو كفاءتهم أو حكمتهم أو أخلاقياتهم.. فإن الكثرة لم تكن يوما معيارا كافيا للتغيير.. (ولكن “أكثر الناس” لا يعلمون)..
ثم إن كثيرا من الناس من يتبع “حمقى مطاعين” بل ومرضى نفسيين (يشكلون حسب دراسة سنرجع إليها 20% من المسؤولين عن مؤسسات في بلاد مختلفة).. وكذابين دجالين..
ولنا في مسيلمة الكذاب وسجاح بنت الحارث وعيينة بن حصن وهتلر وموسوليني وستالين وغيرهم كثير أمثلة عن “تأثير” الكذابين والحمقى والمرضى النفسيين في الناس..
نرجع إلى قولة العرب القديمة جدا “الرائد لا يكذب أهله” والتي قد يكون استعملها الرسول ﷺ عندما أعلن عن رسالته الجديدة لقومه..
فإنه “لمَّا أنزلَ اللَّهُ علَى رسولِه: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ، اشتدَّ ذلِك علَيهِ وضاقَ بِه ذرعًا، فجلَسَ في بيتِه كالمريضِ، فأتتهُ عمَّاتُه يعُدنَه، فقال: ما اشتَكيتُ شيئًا ولَكنَّ اللَّهَ أمرَني أن أنذِرَ عَشيرتي. فقُلنَ لَه: فادعُهم ولا تَدعُ أبا لَهبٍ فيهِم فإنَّهُ غيرُ مجيبِكَ. فدعاهُم فحضروا ومعَهم نفرُ بني المطَّلبِ بنِ عبدِ منافٍ، فَكانوا خمسةً وأربَعينَ رجلًا، فبادرَه أبو لَهبٍ وقال: هؤلاءِ هُم عُمومتُك وبنو عمِّك، فتَكلَّم ودعِ الصُّباةَ، واعلم أنَّهُ ليسَ لقومِك بالعرَبِ قاطبةً طاقَةٌ، وأنا أحقَّ من أخذَك فحبسَك بنو أبيكَ، وإن أقَمتَ علَى ما أنتَ علَيهِ فَهوَ أيسَرُ عليهِم من أن يثبَ بِك بطونُ قريشٍ وتمدَّهمُ العرَبُ، فما رأيتُ أحدًا جاءَ علَى بني أبيهِ بشرٍّ ما جئتَهم بِه. فسَكتَ رسولُ اللَّهِ ولم يتَكلَّم في ذلِك المجلسِ.
ثمَّ دعاهم ثانيةً وقال: الحمدُ للَّهِ، أحمدُه وأستعينُه وأومنُ بِه وأتوَكَّلُ علَيهِ وأشهدُ أن لا إلَه إلَّا اللَّهُ وحدَه لا شريكَ لَه ، ثمَّ قال:
إنَّ الرَّائدَ لا يَكذِبُ أَهلَه،
واللَّهِ الَّذي لا إلَه إلَّا هوَ إنِّي رسولُ اللَّهِ إليكُم خاصَّةً وإلى النَّاسِ عامَّةً، واللَّهِ لتَموتُنَّ كما تَنامونَ، ولتُبعثنَّ كما تستيقِظونَ، ولتحاسَبُنَّ بما تعمَلونَ، وإنَّها للجنَّةُ أبدًا والنَّارُ أبدًا..” (من متن الحديث الذي ورد في فقه السيرة لمحمد الغزالي)
“الرائد” هو المرشد أو الدليل الذي يقدمه قومه لِيرْتادَ مَنزِلاً أو ماءً أو مَوضِعَ حِرْزٍ يَلجَؤن إليه مِن عَدُوٍّ يَطلُبُهُم، فإن كَذَبهم صارَ تَدبيرُهُم على خِلافِ الصواب، وكانت فيه هَلَكتُهُم..
والرائد لغةً: هو الذي يتقدّم الجماعةَ ليتبصّر في أمورها، ويستعلم لها الوقائع التي تتعلّق بمصالحها١
ورائدنا في هذا الكتاب منهاج الأنبياء (فهم أنجح القادة في التاريخ -حتى لمن لم يؤمن بنبوتهم-) المستوحى من الوحي مباشرة .. ونستأنس بعلوم وإحصائيات معاصرينا من أهل الاختصاص وبهذه الجملة/الحكمة التي -على قصرها- أخذت بتفكيرنا سنين طويلة.. سيما وأن رسول الله قد يكون استعملها.. فإن صح ذلك، أصبحت لهذه احكمة مكانة خاصة إذ وضعت ضمن كلام رائدنا صلى الله عليه وسلم.. لأن كلامه وحي من الوحي..
تمرر السنون ويكبر هم ترك ملخص اهتمامنا وتكويننا وتجربتنا (نحن جميعا) لجيل الخلافة الثانية على منهاج النبوة.. ويكبر سر الكلمات الأربعة.. وبلا موعد ننتبه أن القولة يتخللها فعل “كذب”.. وهو بدءا وظاهرا ضد “الصدق”..
وقد رأينا أن “الصدق” أكبر ميزة للريادة في إحصائيات القيادة الجادة.. (كوزس وبوستنر ومعهد لندن للإدارة وغيرها)..
لكن الأمر أكبر من ذلك.. فللكذب وللصدق معان أكبر بكثير من صدق السريرة والقول أو كذبهما..
فما هو يا ترى معنى “الكذب” الحقيقي؟
وما هي -بالتالي- الميزة الرئيسية للرائد الذي لا “يكذب” أهله؟..
وماهو -بالتالي- الفرق الجوهري بين “الريادة” و”القيادة”.. والذي سيخرج من مضمار القيادة كثيرا ممن كنا نظنهم.. “قادة”؟
والحمد لله رب العالمين
الجمعة 14محرم 1441
جمعة مباركة
_______________
١ المعجم الوسيط
