Beyond Followership : « Creatureship »
إن التفكير العقلي في مسائل تخص النفس البشرية -والتي غالبا ما تخضع لمنطق مخالف للمنطق العقلي المحدود الذي يقف عاجزا عن تفسير كثير من الظواهر الطبيعية والإنسانية ويكتفي بوضع أسماء “لاتينية-إغريقية” لها لإسباغ نكهة “علمية” عليها- لا يمكن أن ينبثق عنه إلا نظريات مكمّلة أو مضادّة أو موازية للمسألة المطروحة..
كمثال لهذا التفكير “العقلاني” حول مسألة القيادة، انبثقت نظرية موازية سمّيت ب “التبعية” (Followership).. فبمقابل “القائد” هناك “أتباع”.. وهم كثر..
حاول المنظرون1 فهم قابلية “المتبعين” للاتباع أو للانقياد.. وتم مثلا دراستها لدى الجنود الألمان عقب الحرب العالمية الثانية.. وهناك ظواهر أخرى أوردناها في فقه الريادة كظاهرة المحتجزين والعبيد خلال الرواج الثلاثي (حلقة “تحرر القائد” من الموسم الأول)..
وحاول منظرون آخرون وضع تقسيم للأتباع.. فمثلا يقسم روبرت كيلي الأتباع -وفقا لبُعدي حرية التفكير والنقد من جهة والمبادرة من جهة أخرى- إلى 5 نماذج: “الغنم – sheep ” (نعم! هكذا سماهم هو: وهم من لا تفكير لهم ولا نقد ولا مبادرة) و “الأتباع المستلبون – Alienated Followers ” (وديدنهم النقد و السلبية وعدم المبادرة) و “قوم ‘نَعَم’ Yes people- ” (وهم يتميزون بالحيوية لكن لا استقلالية ولا روح مغامرة لديهم) و”الأتباع الفعالون Effective followers – ” (ومن خصالهم الشجاعة والمبادرة والكفاءة والصدق والأمانة والالتزام وضبط النفس)..
يقول في مقالة كتبها سنة 1988 محاولا شرح التشابه بين خصال القائد والتابع الفعال : “إن الإتباع (Followership) ليس شخصا لكنه “دور”.. إن ما يميز التابع عن القائد ليس الذكاء ولا الشخصية بل هو الدور الذي يقوم به كل واحد منهما .. كما أشرت في بداية هذا المقال ، فإن التابعين الفعالين والقادة الفعالين هم في الغالب نفس الأشخاص لكنهم يقلبون الأدوار فيما بينهم مرارا في اليوم نفسه..” 2
وقد كتب بعض المنظرين أن القائد الجيّد يكون -قبل ‘اكتشافه لقدرة’ قيادته!- تابعا جيّدا..
إن ما توصل إليه كيلي وغيره – لكن بشرح واستنتاج مختلف عما نخلص إلي في “فقه الريادة”- هو تأكيدٌ لما أوردناه في حلقة “خلق ليقود (Born to lead)” من أن الناس -كل الناس- خلقوا ليكونوا خلفاء.. قادة.. روادا.. حيث هم.. وبحسب وسعهم وجهدهم وهمتهم وإرادتهم..
وإننا -في “فقه الريادة”- نستبدل مفهوم “المخلوقية” (Creatureship) بمفهوم التبعية لأنه يفسر دور الانقياد الإيجابي الإرادي لدى القائد.. فيراه الناس “تابعا”..
إن الانسان مخلوق.. وليس خالقا.. فهو غير مستقل في أكله ونفسيته.. فهو محتاج لمن خلقة طوعا أو كرها..
وإن كون الإنسان مخلوقا يحتم عليه الرغبة في الاتصال بخالقه..
لقد جُبل الإنسان على “اتباع” القوة التي أخرجته من العدم.. اعترف بذلك أو أنكره..
وإن انصياع المرء للقوة أمر فطري: فالانسان يخشع أمام جبل عالٍ أو موج عالٍ أو بناية ناطحة للسحاب أو أي مظهر من مظاهر القوة والكِبَر والعظمة..
وخلاصة هذا المقال: أنه إن لم يشبع الإنسان حاجته الفطرية في الامتنان لمن أوجده من عدم.. وشكرِه على هذه الهديّة الكبرى.. والسجودِ أمام خالقه ﷻ.. موجدِه… فإنه سينحني أمام كائن آخر حتى وإن اضطر لصنعه..
لهذا -وكما قلنا سابقا- فإننا نرى لدى بعض من لم يمتثل لفطرته الأصلية، أعراضا –مرضية سلبية- لا تفهم: كلازمة استوكهولم حيث يدافع بعض الرهائن عن مختطفيهم.. أو المازوشية حيث يتلذذ المريض بتعذيب جلاده له.. أو انقياد بعض الجنود بلا أدنى نقد -ولو داخلي- لأوامر بارتكاب الفضاعات.. أو انقياد الناس وسط الجماهير الهادرة لأفعال شغب أو تصاب.. أو انقياد رجال أولي بأس ونفوذ لنزوات طاغية.. أو لرغبات إناث.. أو لحب المال.. أو لعبادة عجل.. ثم بقرة.. ثم فئران.. لا فرق ما دامت النفس تبحث عمن تسجد له ولا تجد من يدلّها على فطرتها.. ولا تعوز الأمثلة من بحث..
هذه الفطرة هي “العبودية”.. هي كون الإنسان “عبدا” مخلوقا..
“خليفة” و”عبد” ؟
متناقضان في الظاهر.. لكن متكاملان في الواقع..
إن الرائد خليفة لله فقط: وهنا يكمن الجواب..
ثم يتّبع الرائد باختياره من وُكّل إليه أمر ما.. يتبعه في حدود:
– أولها أنه دور لا يُنزله من شرف الخلافة لله..
– وثانيها أنه ليس عبدا لمن يتّبعه.. لأنه عبد لله.. تقف الطاعة عند هذا الحدّ: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق…
وبهذا الحد تستقيم خلافته لخالقه.. ويكمل تحرره 3.. ولا تلقي به طاعته للمخلوق إلى التهلكة وارتكاب الفظاعات بدعوى السمع والطاعة أو الانظباط..
لقد كان الصحابة روادا كلهم.. خلفاء كلهم.. لم يمنعهم ذلك من اختيارهم لقادة “منهم” لمهمات قيادة الأمة.. إما لغزوة.. أو لتصدر مجالس العلم.. أو لسفارة.. أو لتجارة.. أو على رأس دولة..
لم تَنقص ريادة سيدنا أسامة بن زيد – وهو لم يبلغ العشرين سنة- من ريادة من كانوا في الجيش الذي قاده.. وقد كان بين الجنود (جنود الله.. لا جنود سيدنا أسامة..) سيدنا أبو بكر الصديق وسيدنا عمر بن الخطاب.. وكبار الأنصار والمهاجرين.. رضي الله عنهم..
كما لم ينقص اتباع النبي العالم الرائد سيدنا موسى للسيد الخضر الولي العالم الرائد.. من ريادته.. وخلافته..
على سيدنا محمد وعليهما السلام..
رواد قائدون وأتباع.. في الوقت نفسه..
لا “لخاصية ذاتية” فيهم كما فكر وقدّر منظرو التسيير: أي أن للنّاس إما شخصية قادة “أو” شخصية أتباع.. (Leaders or followers)
بل لأنهم عبيد لله :
– “تابعون” بالفطرة لمن خلقهم..
– و”رواد” بحكم مهمتهم التي وكلهم بها: خلافته في أرضه..
________________________
1. 1943 : R. G. Bardwell – 1948 : H. L. Ansbacher – 1988 : Robert – 2001 : Robert Goffee & Gareth Jones – 2008 : Thomas Blatt – 2001 : Stanley Milgram Kelley – 2001 : Robert Goffee et Gareth Jones – 2005 : J. van Gelder & R. de Vries – 2009 : E. L. Kersten – 2010 : Warren Bennis –
2. Harvard Business Review «In Praise of Followers» – Robert Kelley : “Followership is not a person but a role, and what distinguishes followers from leaders is not intelligence or character but the role they play. As I pointed out at the beginning of this article, effective followers and effective leaders are often the same people playing different parts at different hours of the day.
3. انظر حلقة “تحرر القائد” الموسم 1 – الحلقة 6