Management & Leadership True Experts
بسم الله الرحمن الرحيم. رب اغفر لي تب علي إنك أنت التواب الرحيم.
منذ أكثر من عشرين سنة، كنت في مهمة تدقيق (Internal Audit) لشركة إنتاج كيماويات امريكية في اوروبا. كان الأمر شيقا إذ قابلت رجلا عجيبا.. رجلا عبقريا في تخصصه.. تجري الكيمياء في عروقه وتملك قلبه.. قارب السبعين من عمره.. كانت قد تعاقدت معه الشركة بعد ان جاوز سن التقاعد.. فرجع الى مكتبه ومعمله.. كما تعود السمكة إلى مائها..
تشع عيناه كلما سئل عن عويصات تخصصه فيتلذذ بالإجابة عنها وبسبر أغوار المجهول في ميدانه ليوضحه ويبسطه من دون كبر ولا عجب وإنما بعشق…
كانت مهمتي أن أتأكد من سلامة المراقبة الداخلية internal control للشركة (وهو أمر جوهري في التسيير لا يفطن إليه -بل ولا يعرف قواعده الخمسة ولا تفاصيله- اكثرمسيري المؤسسات والجماعات والجمعيات.. وسنعود إليه في حلقات خاصة.. وإن واحدا من أهدافنا من هذه السلسلة أن يؤسس للمراقبة والتدقيق الداخليين فرع أو مؤسسة في أي تنظيم إسلامي.. وفي الدولة الإسلامية الموعودة.. أقامها الله.. وسيرها المؤمنون والفضلاء بإذن الله.. متى شاء الله)..
وضعت قواعد المراقبة الداخلي لتؤمن الشركات ضد ضياع أموالها وأصولها وموادها.. ولأتمكن من معرفة نسبة الضياع الحتمي الطبيعي للمواد الناتج عن تبخرها كان علي أن أعرف تفاصيل التفاعلات الكيميائية.. كان الأمر ممتعا لأني كنت سأقابل العبقري مرارا فيخبرني عن مظاهر -وإن كانت محدودة جدا- من أسرار الله في المادة.. وبالفعل نشأت بين العشريني والسبعيني صحبة جميلة.. كنت انتظر مقابلته وكان ينتظر زياراتي.. وكنا نطيل.. حتى ما إذا توطدت الصلة، سألته عن شيء لم أكن لأتقبله تقبل العادة.. قلت له :
– عندي سؤال شخصي بسيط جدا في ظاهره لكنني لا أجد له جوابا.. وهو في الكيمياء.. فكرت أني لن أجد أحسن منك لكي أفهمه..
– قال: قل وسنرى؟
– فقلت على التو : “ما هي النار؟”
فابتسم الرجل ابتسامة حانية أمام سذاجة سؤالي.. واستلقى على كرسيه براحة وثقة ظاهرة.. ليبدأ محاضرته..
– قال مبتسما: “النار” = الهيدروجين عندما يتصل بالأوكسجين
– فقلت له بسرعة = هذا تعريف “الماء”
فتبخرت الابتسامة على الفور.. وتأهب في جلسته.. وقال:
– نعم.. لكن هنا نحتاج إلى حفاز: إلى شرارة.. إلى لهب..
فقلت له:
– وهذا هو سؤالي بالظيط: ما هو اللهب؟ فالأوكسجين بيئة مساعدة ملائمة فقط وليست عنصرا ذاتيا في النار؟
اسند الرجل ظهره إلى كرسيه مرة أخرى.. لكن بلا ثقة هذه المرة.. وبلا راحة.. ثم قال لي بموضوعية العالم:
– استغرب كيف لم أسأل نفسي هذا السؤال وقد أمضيت أكثر سنوات عمري في الكيمياء…
ثم أضاف -وقد صارت المسألة شخصية على ما يبدو.. مسألة كرامة..-:
– لكني سأجيبك..
يتبع
