السعادة شعور معروف لدى كل البشر.. وإن كان طعمه وقوته ومداه وتردده ودوامه وبعض أسبابه مختلفة.. من إنسان لإنسان.. ومن بيئة لأخرى..
قرأت مؤخرا كتابا لمؤلف عربي مسلم يلخص أهم أسباب السعادة في خمسة عوامل أساسية :
1- العلاقات الاجتماعية
2- الرضا عن العمل
3- الرضا عن الدخل
4- مستوى التعليم والثقافة
5- وقت الفراغ
ويضيف أنه لا وجود للسعادة بالمعنى الفلسفي المطلق كحالة من الرضا التام والمستدام بما تناله الذات، فالسعادة -بالنسبة إليه- مجرد حالات شعورية قليلة تقتنص اقتناصا في لحظات عابرة…
غريب..
“بما تناله الذات” !..؟؟؟
أهي مادية صرفة..؟ أم أبيقورية وتمتع صرف.. ؟
أتسائل : أين الجانب الروحي؟
بل أين الأساس الروحي في “العوامل الأساسية” للسعادة ؟؟؟
عمل معاشي وأجرة أو أرباح و”تثقيف” معلومات وعلاقات.. ولهو واسترواح (هي ترجمتي لما قد يكون عناه المؤلف بوقت الفراغ leisure / loisirs)..
إنه لمن الغريب أن تختزل أسباب السعادة في متعة مادية بسيطة ومحدودة.. إشباع للحواس والعقل والعواطف.. خصوصا في بيئة تلقت الوحي.. بيئة عرفت أن الانسان كائن خالد مدعو للكمال.. ولحياة أخرى لا يخطر كمالها بعقل بشر.. إنسان لا يكتفي بهذه “الأشياء” الخمسة..
1- لعب
2- ولهو
3- وزينة
4- وتفاخر
5- وتكاثر
خمسة عوامل تتميز بها الحياة الدنيا.. فقط..
لا الحياتان معا..
سهل مقابلة هذه الأشياء الخمسة (العمل الخبزي.. والأجرة والأرباح.. والعلاقات الاجتماعية.. والقراءة.. والاسترواح..) بما ورد في ٱية تعريف الدنيا العابرة.. :
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ .. }..
خمس لذات..
إن سعادة الإنسان يتغير طعمها وأسبابها مع تطور أفق الانسان من طغيان المشترك الدوابي إلى التماثل البشري إلى الإنسانية الكاملة.. حيث تصبح هذه العوامل المذكورة مجرد “وسائل”.. “حاجيات”.. لا غاياتٍ ولا أسبابا للسعادة…
ويكفي الرجوع إلى هرم “ماسلو” الذي يجعل %80 من العوامل المذكورة في الدرجة الأولى فقط من سلم “حاجيات” الانسان الذي أثّله حسب فهمه..
أما نحن . فيفتح لنا المنهاج النبوي ٱفاقا من أعاليها ننظر إلى ما فوق هرم “ماسلو”.. بمجرات..
اكتمال السعادة رهين باكتمال الرجولة الإيمانية الإنسانية.. التي لا تجعل من لذّات الذات وسعادة الجسد منتهى السعادة..
قال الإمام الغزّالي رحمه الله مبينا نسبية ومحدودية اللذات وتطورها.. وبالتالي تطور السعادة الناتجة عنها.. ومن ثم اكتمالها..:
“وكما أن الصبيّ يضحك على من يترك اللعب ويشتغل بملاعبة النساء وطلب الرئاسة، فكذلك الرؤساء يضحكون على من يترك الرئاسة ويشتغل عنها بمعرفة الله تعالى. والعارفون يقولون: ﴿إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾”..
عندنا : سعادة المرء في الدعوة إلى الله (وهي حالة يومية.. لا شعور نادر يقتنص اقتناصا..) وفي يوم المؤمن وليلتة.. قياما وذكرا (فسعادة الإنسان في “لا إله إلا الله”.. ) وصحبة وعملا في وسط المؤمنين.. معهم.. وخدمة لهم..
قال العارف بالله المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله :
“سعادتي في الآخرة أقْربُ ما يحققها جهادي لإسعاد أمتي في الدنيا. سعادتي الشخصية في الدنيا سعادة مرتَحِلٍ متزَوِّدٍ من دنياه لآخرته. سعادتي في الدنيا سعادةُ صابرٍ على البلواء شاكرٍ للنعماء. ما سعادتي اللذة هنا كما ينْعَم من لا يرجون لقاء الله. لذلك فأنا لا أفكر كما يفكرون، ما عقلي من عقلانيتهم”. (1)
سعادة من نوع أسمى.. لا يعرفها ولا يذوقها كل الناس..
سعادة رواد من نوع خاص جدا..
وقال الإمام ملخصا مجملا جامعة مانعا في كتاب “العدل” :
“من سعادة المرء، بل هي السعادة كل السعادة، أن يبذُل نفسه وأن يجاهد بماله في سبيل الله.”
“كل السعادة”..
منتهى السعادة..
وما دون ذلك.. -وعدا المباحات الضروريات للدعوة إن وُجدت نيّة الدعوة.. والتي هي من السعادة وليست منتهى السعادة (كالأربع من السعادة في الحديث)- لذّات عابرة..
يتعب من يقتنصها اقتناصا.. ولا يشبع..
كيف لمنظري التنمية الذاتية وعلوم التسيير والقيادة -ومن يترجم عنهم من المسلمين- أن يصلوا إلى هذا العلم الرباني النافع.. بل إلى هذا العمل الدؤوب ؟ وأن يعيشوا هذا الشعور (السعادة الحَقَّة) المترتب عن معرفة الله والدّعوة إليه في كل خطرة ومع كل خطرة؟
_________________________
(1) حوار الماضي والمستقبل، 145
– شكرا لأخي عادل الضباغ Adil Dabbagh على إمدادي بهذه القولة الرائعة
