بسم الله الرّحمن الرّحيم {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} ١
1- عَلَّمَ الْقُرْآنَ
2- خَلَقَ الْإِنْسَانَ
3- عَلَّمَهُ الْبَيَانَ
تراتبية لها معنى حتما…
نفهم منها –وهذه خلاصة المقالة- أن الناس ما خلقوا إلا للدّعوة أي لتبليغ الرسالة (القرآن-الوحي) بتبيينها للمخاطَب بعد تعلّمها وامتلاك أدوات البيان لتبليغها..
ومنه قوله سبحانه في مهمة “البيان” الأساسية الموكَلة إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}٢.. “إلا” أداة حصر..
ولكيلا أتّهم نفسي بتكلّف هذا المعنى، أرجع إلى الاستشارة والاستخارة وأرجع إلى علماءنا على سبيل المقارنة والاستئناس والحيطة.. لا لتوقيف عملية الاجتهاد.. فإنّا لا نتّخذ عالما محدّدا سقفا..
وقد اختلف أهل التأويل – ومنهم الطبري٣ والبغوي٤ والقرطبي٥ والسديّ٦ وابن كثير٧ والضحاك٨ وقتادة٩ وابن كيسان ١٠ – في معنى البيان أهو الكلام أو النّطق وتسهيل خروج الحروف من مواضعها أم الكتابة والخط بالقلم أم الفهم أم اللغات أم أسماء كل شيء أم الهدى من الضلال أم بيان الحلال والحرام و بيان الدنيا والآخرة وبيان الخيرُ والشرّ أم بيان ما كان وما يكون..
بعد قراءة التفاسير المشهورة، أرجع إلى أهل الله -والكلّ أهل الله-.
أفعل كلّما كثر اختلاف المفسرين أو كلّما لم أقتنع كثيرا بتأويل معيّن….
قال التّستري ١١ : قوله تعالى {عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ}… يعني علّمه الكلام الذي هو من نفس الروح وفهم العقل وفطنة القلب وذهن الخلق وعلم نفس الطبع، ألهم الله ذلك آدم عليه السلام وبين ذلك.
وقال القشيري ١٢ “عَلَّمَهم البيانَ حتى صاروا مُمَيزَّين – فانفصلوا بالبيان عن جميع الحيوان… والبيانُ ما به تبينُ المعاني … ويقال: البيان الذي خُصَّ به الإنسان (عموماً) يعرِفُ به كيفيةَ مخاطبةِ الأغيار من الأمثال والأشكال. وأمَّا أهل الإيمان والمعرفة فبيانُهم هو عِلْمُهم كيفيةَ مخاطبةِ مولاهم – وبيانُ العبيدِ مع الحقِّ مختلفٌ: فقومٌ يخاطِبونه بلسانهم، وقومٌ بأنفاسهم… وقومُ بأنينهم وحنينهم..
وقال ابن عربي ١٣ ” {علّمه البيان} أي: النطق المميز إياه عن جميع ما سواه من المخلوقات ليخبر به عما في باطنه من العقل القرآني.”
وقال ابن عجيبة ١٤: ” {علَّمه البيانَ} وهو المنطق الفصيح، المُعْرِب عما في الضمير، وليس المراد بتعليمه: تمكينه من بيان ما في نفسه، بل منه ومِن فهم بيان غيره، إذ هو الذي يدور عليه التعليم. وأَخَّر ذِكر خلق الإنسان عن تعليم القرآن ليعلم إنما خلقه للدين، وليُحيط علماً بوحي الله وكُتبه، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان، وهو البيان والإفصاح عما في الضمير”..
يتفق القشيري وابن عربي في أن تميّز الإنسان في البيان عن سائر الحيوان يكمن في تمكينه من مخاطبة الأغيار بما جاء به الوحي (هكذا فهمت “بما في باطنه من العقل القرآني”).. والله أعلم..
رحم الله الجميع ورضي عنهم..
ولأزداد يقينا و -خاصّة وضوحا- أقرأ في مشروع تفسير الإمام المجدد عبد السّلام ياسين (يستعمل الإمام كلمة “تدبّر” عوض “تفسير” وإنّما استعملتها حتى تسهل المقارنة مع “التّفاسير” الموجودة)..
يقول الإمام حين يتكلّم عن “البيان”: “كرَّم الله تعالى الإنسان إذ خلقه في أحسن تقويم. لا يرى هنا في الدنيا إلا ما تكشف له علوم الطب من بديع صنع الله في جسمه. وينتظره في الآخرة إن كرمه الله تعالى بالعقل، وأهَّل هذا العقل بمَلَكة البيان. البيان هو الكشف عما في الضمير لمخاطب تريد إفهامه وهدايته. البيان منة عظمى من مننه سبحانه. هو الواسطة بين الوحي والعقل. ويرتكس العقل الفلسفي فيسمي الإنسان حيوانا ناطقا. نعم، النطق الـمُعْرِب عن العقل أهم ما يميز الإنسان عن البهيمة، الكلام واللغة من خصائص بني آدم. لكن الكلام واللغة لا ترفع الإنسان عن مرتبة الحيوانية التي يُشْبهها بالجسم ما دام يلغو وينطق ويفلسف على مستوى حيوانيته وجسمانيته وحسه وشهواته وكل ما يلصقه بالأرض ويثبط تطلعه للسماء.
إنما يرفعه عن حضيض الحيوانية الناطقة المتكلمة اللاغية فتح سمعه لتلقي الوحي من الرسل عليهم السلام.” ١٥
أعيد القراءة : “البيان هو الكشف عما في الضمير لمخاطب تريد إفهامه وهدايته”.. وهدايته..
البيان (من أجل) الهداية
أي:
البيان (من أجل) الدعوة
أو بشكل اسهل:
البيان => الدعوة => الهداية
ويقول: “التكريم الأعظم للإنسان هو أن خالقه سبحانه يخاطبُه ببيان الرسول. يدعوه إليه. يبعث إليه رسلا مبشرين ومنذرين. معلمين مربين. حرصين على هداية الخلق صابرين على أذاهم معايشين لهم.” ١٦
خلاصة المقالة أن الناس ما خلقوا إلا للدّعوة أي لتبليغ الرسالة بتبيينها للمخاطَب بعد تعلّمها وامتلاك أدوات البيان لتبليغها..
أعيد قراءة آخر الإحالات : “التكريم الأعظم للإنسان هو أن خالقه سبحانه يخاطبُه ببيان الرسول. يدعوه إليه” ١٦.
فلندع النّاس ببيان الرسول..
لندعوَهم إلى الله سبحانه..
__________________
١ سورة الرحمن، الآيات 1 إلى 9
٢ سورة النحل،الآية 64.
٣ جامع البيان عن تأويل القرآن – لابن جرير الطبري المتوفي عام 310 هـ.
٤ معالم التنزيل، لأبي محمد الحسن بن مسعود البغوي المتوفي عام 510 هـ
٥ الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي المتوفي عام 671 هـ
٦ ورد اسمه في الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي المتوفي عام 671 هـ
٧ تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء إسماعيل بن عمر ابن كثير المتوفي عام 774 هـ.
٨ ورد اسمه في تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء إسماعيل بن عمر ابن كثير المتوفي عام 774 هـ.
٩ ورد اسمه في تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء إسماعيل بن عمر ابن كثير المتوفي عام 774 هـ.
١٠ ورد اسمه في معالم التنزيل، لأبي محمد الحسن بن مسعود البغوي المتوفي عام 510 هـ
١١ تفسير التستري، المتوفي عام 283 هـ
١٢ لطائف الإشارات للقشيري، المتوفي عام 465 هـ
١٣ التفسير المنسوب لابن عربي، المتوفي عام 638 هـ
١٤ البحر المديد في تفسير القرآن المجيد لابن عجيبة، المتوفي عام 465 هـ
١٥ مشروع تفسير الإمام المجدد – المجلد 3 – الأصل في تنوير المومنات ج 1 – عبد السلام ياسين – ص 260
١٦ مشروع تفسير الإمام المجدد – المجلد 3 – الأصل في تنوير المومنات ج 1- ص 261
١٧ مشروع تفسير الإمام المجدد – المجلد 3 – الأصل في تنوير المومنات ج 1 – عبد السلام ياسين – ص 261
