عندما يطرح سؤال مقارنة تعريفَيْ المنهاج والسنة تكون الاجابة غالبا بأن المنهاج النبوي آلة لتنزيل وتطبيق حكم شرعي في واقع مغاير.. فأُعَقِّبُ لاستفزاز الحسّ النقدي والتدقيقي لدى المجيب ليكون مستعدا للرد على من يدعوهم إذا ما أجابوه أو سألوه : “هذا تعريف الفقه ومقصد الفتوى !”..
“فما جديد المنهاج النبوي ؟”
والواقع أن رؤية الزّيال قد تحجبها العادة وغياب تحدّي المستفسرين…
صحيح أن مقصد الفقه تكييف الحكم للواقع وهذا من مقاصد المنهاج النبوي لكن هناك اختلاف نوعي وليس كميّا.. بين المفهومين :
1- إن شروط المجتهد المطلق في الفقه الموروث تتلخص في جانبين : شروط أخلاقية وشروط عقلية وعلمية..
فعلى المجتهد أن يكون “صالحا”، أي مكلفا، مسلما، ثقة، رصين الفكر، سليم الذهن، محيطا بأدلة الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وما التحق بها على التفصيل المذكور في كتب الفقه، عارفا بعلوم القرآن والحديث، وعلم الناسخ والمنسوخ وعلمي النحو واللغة، ملمّا بأمهات مسائل الفقه وتفاريعه، وأن يعرف من الحساب ما يصحح به المسائل الحسابية الفقهية.. *
2- أما شروط المجتهد في فقه المنهاج النبوي فهي **:
ا- أن يكون من أهل الاحسان (والاحسان -على عكس شرط الصلاح الآنف ذكره- ليست كلمة فضفاضة في المنهاج النبوي.. بل هو معنى يمكن قياسه بدقة.. فالإحسان “مجموع” لسبع وسبعين شعبة أغلبها جماعي ظاهر للعيان كحضور مجالس الصحبة والجماعة والشجاعة والنصيحة والهجرة والنصرة والبشر والرفق وعمارة المساجد والتكسب والاحتراف والإمارة والخلافة والمبايعة والطاعة..)..
وليس هذا الصلاح تقييما “شعوريا” يعتمد على جرد مناقب متفرقة.. وليس أمرا ضمنيّا مسلّما به.. بل إن لهذا “الصلاح” المنهاجي -على شعب الإيمان كلِّها- مقتضياتٍ ليست بالهينة العواقب..
ب- أن يكون المجتهد من أهل الدعوة منضويا في جماعة مجاهدة تروم العمل لإعادة حكم الإسلام..
ج- أن يكون مستقلا لا موظفا لدى الحاكم.. حتى يتمكن من أداء وظيفته كثقل موازٍ لسلطة الحكم.. ينصحه ويقيِّم ويقوِّم أداءه..
د- أن يشمل الفقه مسائل الدعوة والدولة.. وقد غيبت مسائل الدولة في الفقه الموروث قرونا.. إلا ما سمح به من “أحكام سلطانية” تبرّر الاستحواذ على الملك ولا تؤسس لتداول شوري للحكم .. وكان أغلب ما اجتهد فيه الأحوال الشخصية من مواريث وزواج وغيرها…
ه- أن يكون الاجتهاد جماعيا تشاوريا شوريا
و- أن يستدعى أصحاب الاختصاصات العلمية الأخرى حسب موضوع الاجتهاد (وهذا الشرط قد يدعو له أصحاب الفقه الموروث)
ز- أن يعبّر عن “مقاصد الشريعة” في صيغ مطلبية لا حفاظية، فنقول: “مطالب الشريعة”.. وأول المطالب قيام دولة الإسلام أي مطالب الشورى والعدل والإحسان والوحدة..
ن- ثم تأتي الشروط العلمية (نعني هنا العلوم الشرعية فقط، اما العلوم الكونية فقد ذكرناها ضمنيا في شرط الاجتهاد الجماعي [و] وأما العلم بالله فقد بدأنا به الشروط عندما ذكرنا أنه على المجتهد أن يكون المجتهد من أهل الله [ا]) ولا اختلاف فيها مبدئيا..
وسنرى في الحلقة القادمة أن هذه الفروق جذرية نوعية.. لها مقتضيات دقيقة فاصلة.. تجعل من فقه المنهاج النبوي الجامع شيئا مختلفا عما نعرفه عن الفقه وعرفناه طيلة قرون..
وسنرى أن الشروط التربوية لا تقتصر على المفتي المجتهد.. بل تخص المفتى له لسببين :
أولهما : أن المجتهد في الفقه المنهاجي ليس منعزلا عمن يفتيهم.. بل هو “منهم”.. بل “معهم” (شرط العضوية في جماعة مجاهدة وهو في رأينا شرط منبثق عن أول خصال التربية الإيمانية الواجبة في المجتهد والمتلقي على حد سواء : خصلة الصحبة والجماعة)
ثانيهما أن المؤمن ليس إمعة ذا ذهنية رعوية ينتظر أن يفعل به أو أن يفتى له دائما.. وأن شرط الصلاح.. بل الإحسان -على شعب الإحسان- شرط واجب في الجميع..
ولنذكر معاناة سيدنا عليّ كرم الله وجهه مع عدد من أتباعه إذ وصفهم بأشباه الرجال.. وقارنهم بمن كانوا مع من قبله..
فلا يكفي أن يكون المجتهد صالحا ويفتي من برجه لأناس لمّا تبتدئ أو لمّا تكتمل تربيتهم…
بل إن من وظيفة المجتهد الحق.. على غرار الأنبياء صلوات الله عليهم.. التزكية اساسا.. مع التبليغ والتعليم..
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ :
– يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
– وَيُزَكِّيهِمْ
– وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}
(سورة الجمعة – الآية 2)
والله المستعان
_______________________
* من كتاب المفتي والمستفتي لابن الصلاح بتصرف وإيجاز
** من كتاب نظرات في الفقه والتاريخ للإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله بتصرف
